إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية. إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا    عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة)
السراج الوهاج للمعتمر والحاج
47598 مشاهدة
الزيارة قبل الحج أو بعده وآثارها في الأمة

تمكن في قلوب الكثير اعتقاد أن زيارة القبر النبوي مع الحج حتم وفرض من الفروض الواجبة ، وأن من لم يزره فقد أخل بما يلزمه ، فتراهم لذلك يتجشمون المشاق ، ويحثون السير إلى المدينة المنورة وما يقوم بقلوبهم إلا استحضار القبر وتقديسه ، واعتقاد أن المسجد ما اكتسب الفضيلة، ولا حاز أجر المضاعفة إلا حيث ضمّ ذلك القبر الشريف.
وأنا أقول: إن هذا الاعتقاد خطأ محض، رغم كثرة من وقع فيه من الأوائل والأواخر، منخدعين بشبه أحاديث مشتهرة على الألسن، قد رواها بالسند بعض من لم يلتزم التثبت : كالطيالسي والدارقطني محيلين القرَّاء على السند، فعندما نظرها النقاد بعين البصيرة بينوا ضعفها أو وضعها عقلا ونقلا.
وأشهرها عند العامة ما ورد بلفظ: من حج ولم يزرني فقد جفاني .
وقد أجمعت الأمة على عدم وجوب الزيارة مع كل حج، ولو صح هذا اللفظ لكان تركها كفرا، لما فيه من جفاء النبي -صلى الله عليه وسلم- فقد اتفقوا على ترك العمل بظاهر هذا الحديث، مما يبين أنه موضوع.
ومنها حديث: من زارني بعد مماتي فكأنما زارني في حياتي ومعلوم أن زائره في الحياة يحظى بفضيلة الصحبة، ويتلقى عنه العلم والأحكام مباشرة، مما لا يحصل لزائر قبره -صلى الله عليه وسلم- فبطل ظاهر الحديث أيضا.
ومنها ما روي بلفظ: من زار قبري وجبت له شفاعتي .
مع أن شفاعته -صلى الله عليه وسلم- إنَّما ينالها أهل التوحيد الخالص، كما ثبت ذلك بالسنة الصحيحة.
وليس منه تعظيم القبر بشد الرحل إليه، وجعله مقصدا ومطلبا؛ بل يكون شركا خفيا أو جليا، لما يصحبه من التعظيم الذي يظهر أثره في التذلل والخضوع، وهذا خالص حق الله تعالى، وهذا ما يحصل بكثرة من جُل أولئك الزوار، الذين يقفون أمام القبور بالمسجد وبالشهداء وبالبقيع فتراهم هناك مهطعين مقنعي رؤوسهم، تغاشهم الذلة والهيبة، وقد وضعوا الأيدي على الصدور أو رفعوها داعين مبتهلين بخشوع وهيبة، واستكانة لا يحصل بعضها في صلاتهم بين يدي ربهم تعالى.
وقد يطيل أحدهم القيام، وربما غاب عن نفسه فلا يحس بضرب ولا تأنيب، وأكثرهم يتوجهون إلى ناحية القبر حالة الجلوس أو الدعاء أو قراءة الأوراد، مفضلين له على القبلة وهم في تلك الحال، متصفون بالسكينة والخشوع والإخبات، والكثير منهم أو من الملقنين لهم يتسترون خوفا من إنكار البعض عليهم، فعند انفرادهم تظهر مخبآت الصدور، وقد يغلب الكثير منهم بعض ما يجدون، فيبوح بما في ضميره ولو رآه، أو سمعه الجمهور، وكثيرا ما تبدر منهم كلمات تنافي أصل التوحيد أو كماله : كوصف الرسول -صلى الله عليه وسلم- أو بعض أهل بيته بما لا يستحقه إلا الله من سعة الملك، والتصرف في الكون، والإعطاء والمنع، والضر والنفع.. إلخ ، وأقل ذلك ملك الشفاعة بدون إذن الله ورضاه.
وبموجب هذا الاعتقاد يدعونه -صلى الله عليه وسلم- ويسألونه ما لا يملكه إلا الله، ويعتمدون عليه، وتصدر منهم أفعال كهذه الأقوال، تدل على التعظيم واعتقاد التأثير، فتراهم يهتبلون غفلة الحراس ، أو يدفعون لهم نقودا ليتمسحوا بالباب والأستار والحيطان والمنبر ونحوها، وكثيرا ما يطوفون بالحجرة كالطواف بالبيت العتيق وأضعاف هذه الأفعال والأقوال التي لا تصدر إلا عن اعتقاد في تلك الستور والحيطان.
وقد دفعهم إلى هذه الزيارات وما ينتج عنها ما يتناقل بينهم كثيرا من حكايات واهية، وأخبار ضعيفة، أو مكذوبة، ومنامات أشبه بأضغاث الأحلام، ولكن راجت تلك الأمور على السذج وضعفاء البصائر، فتناقلوها وضمنوها مؤلفاتهم، وتداولتها الأيدي، وانتشرت واشتهرت على الألسن، حتى وقعت منهم موقعا، وتمكنت في النفوس، توارثها الأجيال من غير نكير، واعتقدوها الحق وسواها باطل وضلال.
ومن أشهر وأقدم تلك المؤلفات كتاب: شفاء السقام في زيارة خير الأنام للتقي السبكي الذي اشتهر وأقبل عليه الجم الغفير قراءة وعملا وتطبيقا، ولم يعلموا أن أحاديثه وأدلته كلها واهية موضوعة، لا تصلح مستندا، كما بيَّن ذلك الحافظ ابن عبد الهادي في رده الذي سماه: الصارم المنكي في الرد على السبكي .
ومن المؤلفات الباطلة أيضا في هذا الباب كتاب: الدر المنظم في زيارة القبر المعظم لابن حجر المكي حيث ذكر فيه من الحكايات ، والمنامات والأباطيل ما تمجه الأسماع، وتنفر منه الطباع، ومع ذلك تجد لها آذانا صاغية، تتقبلها وتروجها وتحبذ العمل بها، فيعظم الشر والضرر.
ولقد تصدى للدفاع عن هذه الأباطيل بعض المتأخرين الزائفين، أمثال النبهاني والحداد والزهاوي ودحلان وابن جرجيس وأضرابهم الذين كتبوا وتكلموا بكل جراءة، داعين إلى هذه الزيارة والأفعال الشركية معها، ومتهمين كل من نهى عنها ببغض الرسول -صلى الله عليه وسلم- وتنقصه.. وما إلى ذلك.
وكأن محبة الرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما تتجلَّى بدعائه والتوسل بذاته، والخضوع والذل أمام قبره الشريف ، وشبه ذلك مما هو خالص حق الله تعالى، ومما قد نهى عنه نبينا عليه الصلاة والسلام ، وعما هو دونه، ككونه خير البرية، أو تسميته سيدا، وقول: ما شاء الله وشئت.
ولم يعلم هؤلاء الأغبياء أن أشد الناس له محبة وتعظيما هم صحابته رضي الله عنهم، ولم يكونوا يعاملونه بشيء من ذلك، حتى كانوا لا يقومون له إذا أقبل، لعلمهم بكراهته لذلك.
ولقد أخبر -صلى الله عليه وسلم- أنه لا يؤمن أحد حتى يكون نبيه أحب إليه من ولده ووالده، ونفسه، وماله، والناس أجمعين ولكن هذه المحبة تتمثل في طاعته واتباعه، وتقليده في أفعاله، والتقيد بسنته، والتمسك بها، والعض عليها بالنواجذ في كل وقت وحال، لا في الغلو فيه وإطرائه الذي قد نهى عنه، وقال: إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله وقال لقوم دعوه بالسيادة والفضل: قولوا بقولكم، أو بعض قولكم، أنا محمد عبد الله ورسوله، ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله رواه النسائي .
بقي أن يُقال: لعل الكثير من هؤلاء الزوار قصدوا المسجد النبوي الذي ورد الإذن في شد الرحل إليه، لمزيته ومضاعفة الصلاة فيه.
والجواب: أن هذا القصد مباح، ولعله مراد من ذكر الزيارة من العلماء الأجلاء في مؤلفاتهم، حيث ذكروا أنه يبدأ بالمسجد فيصلي فيه، ثم يزور القبور والبقيع والشهداء، الزيارة الشرعية المدونة في دواوين أهل السنة، ولكن مع ذلك فإن المقام بمكة أفضل وأولى لمن هذا قصده، فإنها خير بقاع الأرض، والصلاة في المسجد الحرام تعدل مائة صلاة بمسجد المدينة وكما في قصة الذي نذر أن يصلي في المسجد الأقصى فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم- صَلِّ هاهنا وذلك حرصا منه على مضاعفة العمل.
ثم إنَّا لا نمنع السفر إلى المدينة النبوية أو غيرها من البلاد، لا لقصد بقعة معينة لاعتقاد مزية فيها، وإنما لقصد السير في الأرض للاعتبار، والتذكر لأحوال الأمم والأجيال الماضية، فإن ذلك مما يدخل في أمر الله تعالى في قوله: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ (سورة النحل ، الآية:69) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ (سورة محمد ، الآية:10) .
وهكذا السفر إلى المدينة أو غيرها أيضا للتعلم أو التعليم، فذلك مما يجب عينا، أو كفاية على الأمة، ولا يدخل تحت النهي عن شد الرحال الذي يقصد منه السفر لتعظيم بقعة بعينها، والاعتقاد فيها الذي يؤول إلى تعظيمها بما لا يحل شرعا.
وأخيرا: ننصح إخوتنا المسلمين عن تلك الأفعال، والاعتقادات الخاطئة التي يقعون فيها عن تقليد أو عن حسن ظن، مع أنها تقدح في العقيدة، وتنافي أصل التوحيد أو كماله ، ونهيب بهم أن يتعلموا ما يجب عليهم من حق الله، وعبادته وحده، وسيجدون أعذب مورد ينهلون منه عن قناعة ورضى، ألا وهو كتاب الله وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الحريص على نجاة أمته، حشرنا الله في زمرته، وجعلنا من أتباع ملته، والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.