التعليقات الزكية على العقيدة الواسطية الجزء الأول
21- إثبات صفة العلو لله
[وقوله: رسم> يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ قرآن> رسم> [آل عمران: 55]. آية> رسم> بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ قرآن> رسم> [النساء: 158]. آية> رسم> إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قرآن> رسم> [فاطر: 10]. آية> رسم> يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا قرآن> رسم> [غافر: 36 ، 37]. آية> وقوله: رسم> أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ قرآن> رسم> [الملك: 16، 17]. آية>
هذه بعض الأدلة على مسألة العلو، وهو أن الله تعالى موصوف بصفة العلو؛ علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر، وكذلك الفوقية؛ فوقية الذات، وفوقية القدر، وفوقية القهر، وقد وردت فوقية الله في موضعين؛ موضع فيه احتمال، وموضع ليس فيه احتمال.
الموضع الذي فيه احتمال ورودها مجردة، وهو قوله تعالى: رسم> وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ قرآن> رسم> [الأنعام: 18]. آية> والموضع الذي ليس فيه احتمال هو المقيد بمن في قوله: رسم> يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ قرآن> رسم> [النحل: 50]. آية> فإن هذا لا يقدرون على تأويله، ولا مجال لتأويله، وليس هناك أي احتمال أن المراد هنا فوقية القهر.
فعلو القهر بمعنى: السيطرة والغلبة، فالله تعالى عال على الخلق بمعنى قاهر لهم، ومسيطر ومتغلب عليهم، يقال: فلان قد تعلى على فلان يعني: استولى عليه وقهره، فهو عالٍ عليه، هذا علو القهر.
أما علو القدر، فهو العلو الذي بمعنى العظمة، أي: أن الله أعلى قدرا من غيره، والأعلى قدرا هو الأشرف والأفضل، تقول مثلا: الأمير أعلى قدرا من الخادم، وتقول: السيف أعلى قدرا من العصا، وما أشبه ذلك، هذا علو القدر، فالله تعالى أعلى قدرا من الخلق، يعني: أعظم وأشرف وأجل وأفضل، هذا في العلو.
ومثله الفوقية: الله تعالى فوق عباده فوقية غلبة وسيطرة، قال تعالى: رسم> وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ قرآن> رسم> [الأنعام: 18]. آية> أي: الغالب والمسيطر، والمستولي عليهم بدون معقب، هذه فوقية القهر.
كذلك فوقية القدر، وهي بمعنى علو القدر، يعني: أنه فوقهم، أي: أعظم وأجل وأشرف وأعلى قدرا منهم، وهذان الأمران يثبتان في حق المخلوق، فيكون بعض الخلق أعلى قدرا وفوق غيره فوقية قدر، وكذلك أعلى قهرا، فيكون فوق غيره فوقية قهر، كما حكاه الله عن فرعون.
أما علو القهر فذكره في قول فرعون: رسم> فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى قرآن> رسم> [النازعات: 24]. آية> بمعنى الغالب والمتسلط والمسيطر والمستولي، وليس معناه المرتفع، فإنه مساو لهم على الأرض، كذلك قوله: رسم> وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ قرآن> رسم> [الأعراف:127]. آية> هذه الفوقية بمعنى فوقية الغلبة، يعني: أننا غالبون وقاهرون، ومسيطرون ومستولون عليهم، هذه هي فوقية القهر وعلو القهر في، حق المخلوق.
كذلك علو القدر وفوقية القدر- ذكرنا أيضا أمثلتها، فإنه يقال مثلا: الأمير أعلى من المملوك، أو فوق المملوك، أي: فوقه قدرا، كما يقال: الذهب أعلى من الفضة، الذهب فوق الفضة، يعني: فوقه قيمة وفوقه مقدارا، فالله تعالى له علو القدر، وفوقية القدر، رأس> وله علو القهر وفوقيه القهر، وله أيضا علو الذات، يعني: أنه عالٍ على خلقه علوا حقيقيا، فهو فوقهم فوقية حقيقية.
وقد ذكرنا أن الله أثبت هذا العلو والفوقية بالذات في عدة مواضع لا مجال للرأي فيها، ولا يتمكن من تأويلها كلها، فمن ذلك آيات الاستواء السبع، ومن ذلك آيات الرفع، ومن ذلك آيات الصعود، ومن ذلك آيات العروج كقوله: رسم> تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ قرآن> رسم> [المعارج:4]. آية> وقوله: رسم> يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ قرآن> رسم> [السجدة:5]. آية> ومن ذلك الآيات التي فيها إثبات السماء، كهاتين الآيتين في سورة الملك، ومن ذلك آيات همِّ فرعون أن يصعد إلى السماء ليطلع إلى إله موسى اسم> لما ذكر له موسى اسم> أن ربه في السماء، ونحو ذلك من الأدلة الكثيرة.
هذه آيات دالة دلالة صريحة على أن الله موصوف بالعلو؛ علو الذات، والفوقية فوقية الذات، وإذا أثبتنا لله تعالى هذه الفوقية فإننا لا نقول بأن مخلوقا يحيط بالخالق أو يحصره تعالى، بل مخلوقاته التي هي حقيرة قد ذكر شيئا من عظمتها، وذكر عظمة الكرسي: رسم> وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قرآن> رسم> [البقرة: 255]. آية> أي: أن الكرسي قد اتسع للسماوات والأرض، وكذلك عظمة العرش ذكر أن الكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، فإذا كانت هذه عظمة الكرسي، وهذه حقارته بالنسبة إلى العرش عرفت عظمة العرش، فكيف بعظمة رب العرش وخالق الكون، فإنه تعالى لا يحيط به خلقه.
وبعد أن عرفت هذه المقدمة نذكر الآيات التي عندنا:
*الآية الأولى: من سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: رسم> يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ قرآن> رسم> [آل عمران: 55]. آية> ذكروا أن عيسى اسم> لما هم اليهود بقتله ألقي عليه نوم شبه وفاة؛ وفاة نوم، فرفع إلى السماء في تلك الغشية حتى صعد به إلى السماء، الله تعالى ذكر أنه رفعه إليه: رسم> وَرَافِعُكَ إِلَيَّ قرآن> رسم> فدل على أن الله فوق، والرفع لا مجال للتأويل فيه، وهو أوضح العبارات التي تدل على الفوقية، كما في قول ابن القيم لما ذكر معاني الاستواء، قال:
ولهـم عبـارات عليهـا أربـع | قـد حـررت للعـالم الربـاني |
وهي استقـر وقد علا وكذلك ار | تفـع الـذي ما فيه من نكران |
يعني: ما يستنكر دلالة الارتفاع أحد، ولا يقدرون على أن يؤولوه بتأويل بعيد، ومع ذلك فقد تأولوا قوله تعالى: رسم> وَرَافِعُكَ إِلَيَّ قرآن> رسم> أي: رافعك إلى محل، الكرامة أو رافعك إلى محل لا يكون فيه ملك لغيري، تأويلات بعيدة، والله ذكر أنه رفعه إليه، فدل على أن الله في العلو، وأن عيسى اسم> رفع إلى الله.
* ومثلها الآية الثانية في سورة النساء، لما حكى الله عن اليهود ذكرهم أنهم قتلوه في قوله تعالى: رسم> وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ قرآن> رسم> إلى قوله: رسم> بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ قرآن> رسم> [النساء: 157، 158]. آية> أي: رفعه من الأرض إلى الله في السماء، فدل على أن الله تعالى في السماء، وأنه فوق عباده، وأن عيسى اسم> رفع إلى الله، وتأويلهم لهذه الآية كتأويلهم للآية السابقة، وهي تحريفات بعيدة ولا يستطيعون أن يؤولوها تأويلا مقبولا.
* الآية الثالثة: وهي آية الصعود في سورة فاطر، وهي قوله تعالى: رسم> إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قرآن> رسم> [فاطر: 10]. آية> جمع الله فيها بين الصعود والرفع، والصعود، هو الرقي إلى فوق، ومنه سمي المصعد؛ لأنه يرقى، فيقولون: صعد فلان إلى الجبل، وصعد فلان إلى السطح، بمعنى رقى، فكذلك قوله تعالى: رسم> إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ قرآن> رسم> [فاطر: 10]. آية> يعني: يرقى، والكلم الطيب هي الحسنات والأعمال الصالحة والأقوال الصالحة تصعد إلى الله، أي: ترقى إليه وتخترق الحجب وتدخل وتفتح لها أبواب السماء، وتصل إلى الله؛ لأنها تمجيد لله وتحميد له، وتعظيم له، فلا تحجب دونه، هذا معنى كونها تصعد إلى الله، فسر الكلم الطيب بأنه التسبيح والتحميد والتكبير والباقيات الصالحات، وفسر بأنه تعظيم الله وإجلاله، وذكره بجميع أنواع الذكر، وفسر بأنه كلامه إذا تلي وقرئ، فإنه يصعد إليه، وفسر بأنه دعاؤه إذا دعي بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وفسر بأنه الدعوة إليه، ولعل الجميع من الكلم الطيب.
ثم إن تأويل المعتزلة والأشاعرة لهذه الآية كغيرها وهو أنهم قالوا: إليه يصعد يعني: إلى ملكه، أو إلى حيث لا متصرف غيره أو إلى سمائه، ولم يعترفوا بأنها تصعد إلى الله، بل إلى سماء الله أو ما يختص بالله وهو تأويل بعيد، كذلك فسروا قوله: رسم> وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قرآن> رسم> [فاطر: 10]. آية> والرفع ظاهر أنه رفعه من الأرض إلى السماء، والعمل الصالح يرفعه يعني: أنه إذا قبله لكونه صالحا رفعه إلى السماء، تأولوا الرفع هنا بأنه القبول، فقالوا: يرفعه، أي: يقبله، وهو أيضا تأويل خاطىء، فالرفع ليس هو القبول وحده، ولا شك أن القبول معناه اعتبار ذلك العمل وعدم رده، وقد وردت أدلة تدل على أن الأعمال الصالحة تصعد إلى السماء، كالحديث الذي فيه: رسم> إذا صلى الرجل فأحسن الصلاة، صعدت إلى السماء ولها نور، فتفتح لها أبواب السماء، وتدعو لصاحبها، وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإذا صلى وأساء صلاته صعدت ولها ظلمة، فتغلق دونها أبواب السماء وتلعن صاحبها، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، فتهبط إلى الأرض، وتلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها رسم> ذكره الإمام أحمد اسم> في الرسالة السنية حديث> فدل على أن العمل الصالح يصعد إلى الله وتفتح له أبواب السماء، وهذا دليل على أن قوله: رسم> وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ قرآن> رسم> أي: أنه يرفع إلى الله.
ومما يدل على ذلك أيضا الحديث الصحيح الذي يقول فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- رسم> إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل متن_ح> رسم> فدل على أن العمل يرفع إلى الله؛ عمل النهار يرفع قبل أن تغيب شمس الليل، وعمل الليل يرفع قبل أن تطلع شمس النهار.
إذن، فكل التأويلات التي تأولت الرفع وصرفته عن معناه الحقيقي هي تأويلات باطلة، فالرفع لا تأويل له صحيح.
هناك آية ثانية في العروج لم تذكر هنا، وهي قوله تعالى في سورة السجدة: رسم> يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ قرآن> رسم> [السجدة: 5]. آية> والعروج: هو الرقي، عرج بي، أي: رقي بي، ومنه سمى المعراج لما عرج بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء، فقوله: رسم> ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ قرآن> رسم> أي: ثم يرقى هذا الأمر إلى الله، فآيات العروج والصعود كلها دالة على الرفع، وكأن الصعود هو الرقي في سمت ارتفاع مستمر، مثل المصعد، فالصعود هو صعود إلى فوق.
وأما العروج فكأنه في درج، تقول: عرجت بفلان أي: رقيت به في درج أو نحوه؛ ولهذا ذكر النبي -عليه السلام- في قصة الإسراء والمعراج أنه كان هناك معراج صعد به، وعلى كل حال فالجميع يدل على الفوقية والرفع.
ومن آيات العروج أيضا قوله تعالى في سورة المعارج: رسم> سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ قرآن> رسم> [المعارج: 1- 4]. آية> إذن المعارج هي المراقي تعرج معها الملائكة وتعرج معها الأرواح إلى الله، فدل أن الله فوق، وأنها تعرج إليه يعني: ترقى إليه، فهذه أدلة واضحة.
*الآية الرابعة: وهي في قصة فرعون، حكى الله عنه أنه قال: رسم> يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ قرآن> رسم> [غافر: 36]. آية> الصرح: هو البناء الرفيع، والأسباب، يعني: الحبال، رسم> أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى قرآن> رسم> [غافر: 37]. آية> أي: حبال السماء فأصعد فيها حتى أصل إلى السماء فأطلع إلى إله موسى اسم> الذي يقول إنه في السماء لأنظر هل هو صادق أم لا رسم> وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا قرآن> رسم> [غافر: 37]. آية> هكذا ذكره الله في سورة المؤمن غافر، وكذلك في سورة القصص في قوله: رسم> فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ قرآن> رسم> [القصص: 38]. آية> لعلي أتخذ بناء رفيعا أصعد إليه حتى أصل إلى السماء لأنظر هل في السماء إله كما يقول موسى اسم> أم لا، فأنا أظن أنه من الكاذبين، ليس في السماء إله، هذا دليل على أن موسى اسم> بلغ فرعون أن إلهه في السماء.
ثم إن المعتزلة والأشعرية ونحوهم قالوا: إن هذا ظن من فرعون، وإن من اعتقد أن الله في السماء فقد تشبه بفرعون فهم عكسوا القضية، وقالوا: أنتم أيها المشبهة يا من تقولون: إن ربكم في السماء قدوتكم فرعون الذي قال: إن إله موسى اسم> في السماء، فكيف نجيب، وكيف نرد عليهم هذا القول؟ نقول لهم: فرعون جاحد منكر أن يكون هناك إله، بل يدعي أنه هو فقط فيقول: رسم> فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى قرآن> رسم> [النازعات: 24]. آية> و رسم> مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي قرآن> رسم> [القصص: 38]. آية> فهو جاحد لا يقر بأن له إلها ولا ربا لا في السماء ولا في الأرض، فلما جاءه موسى اسم> وأخبره بأن هنالك إله، فلا بد أنه قد سأله أين هذا الإله الذي تزعم يا موسى اسم> ولا بد أن موسى اسم> أخبره بأن إلهه في السماء، ولو كان الله تعالى ليس في السماء بل في كل مكان كما تقوله المعتزلة، أو ليس في جهة؛ لما تكلف فرعون، ولما بنى ذلك الصرح، ولقال له موسى اسم> إن إلهي الذي أدعوك إليه ليس في السماء بل اطلبه في الأرض، واطلبه تحتك وعن يمينك وعن يسارك إلى آخره.
فهذا ونحوه دليل واضح على أنه تلقى هذا القول من موسى اسم> وإلا لم يتكلف بناء الصرح.
فالرفع هو الذي لا يستطيعون أن يؤولوه، أما الفوقية والعلو فقد قالوا: إن معنى العلو: الغلبة والقهر والسيطرة والملك والقدر والشرف وما أشبه ذلك، فأما الرفع فليس بإمكانهم تأويله، لكنهم مع ذلك تأولوه بأن المراد الرفع إلى المكان الذي لا ملك فيه لغير الله وهو السماء، وهو تأويل بعيد.
* الآية الخامسة: في سورة الملك، وهي قوله تعالى: رسم> أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا قرآن> رسم> [الملك: 16، 17]. آية> يعني: هل تأمنون الله الذي في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسف بقارون؟ هل تأمنون الإله الذي في السماء أن يرسل عليكم حاصبا كما أرسله على من قبلكم، كعاد وثمود، لقوله تعالى: رسم> فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ قرآن> رسم> [العنكبوت: 40]. آية> الذي في السماء وهو الذي يرسل عليهم الحاصب، وهو الذي يخسف بهم الأرض.
قالت المعتزلة والأشعرية: المراد: أأمنتم من في السماء أمره، أو من في السماء ملكه، قالوا: إنه على حذف مضاف مقدر، أي: من في السماء ملكه.
قلنا: ليس كذلك، فملكه ليس خاصا بالسماء؛ بل ملك الله في السماء، وفي الأرض، فلماذا خصص السماء، وكيف تقولون: من في السماء أمره؟
أليس أمره في السماء والأرض، كيف تقولون من في السماء ملكه؟ أليس ملكه في السماء والأرض، وبعضهم قال: المراد جبريل اسم> والمعنى: أأمنتم جبريل اسم> الذي في السماء أن يخسف بكم الأرض أو يرسل عليكم حاصبا.
فنقول: جبريل اسم> مملوك لله، جبريل اسم> مخلوق لا يفعل شيئا إلا بأمر الله كما حكى الله عنه أنه قال: رسم> وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا قرآن> رسم> [مريم: 64]. آية> فهذا اعتراف جبريل اسم> بهذه الأمر، فإنه ليس له تسلط ولا تصرف إلا بأمر الله، فكيف يرسل الحاصب؟ بل الله تعالى هو الذي يرسله، كما في قوله تعالى: رسم> أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ قرآن> رسم> إلى قوله: رسم> أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ قرآن> رسم> [الإسراء: 68، 69]. آية> في هذه الآية جمع بين الخسف وبين إرسال الحاصب، والله تعالى هو الذي يرسل ذلك.
فهذا في المشركين الذين يخلصون لله في الضراء، كما قال سبحانه: رسم> وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ قرآن> رسم> [الإسراء: 67]. آية> ذهبت عنكم آلهتكم إلا إياه فأخلصتم له رسم> فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا قرآن> رسم> [الإسراء: 67]. آية> ثم قال تعالى: رسم> أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ قرآن> رسم> من الذي يفعل ذلك إلا الله -سبحانه وتعالى-؟، ثم قال: رسم> أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا قرآن> رسم> وكذلك في الآية التي معنا: رسم> أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا قرآن> رسم> أي: ريحا أو صيحة أو حجارة تضربكم كما أرسلت على قوم لوط.
فالحاصل أن كلمة رسم> فِي السَّمَاءِ قرآن> رسم> واضحة لا تأويل لها، ثم قول أهل السنة: إن الله في السماء، ليس معناه أن السماء تحيط به أو تحمله أو تقله أو تظله أو تحصره، فإن الله تعالى لا يحيط به مخلوق، فقوله تعالى: رسم> أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ قرآن> رسم> له معنيان:
الأول: أن تفسر في بمعنى على.
الثاني: أن تكون السماء بمعنى العلو، فإن السماء اسم لكل ما علا وارتفع، فكل ما علا فوقك فهو سماء، ومنه تسمية السقف سماء في قوله تعالى: رسم> فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ قرآن> رسم> [الحج: 15]. آية> يعني: سقف البيت ونحوه.
فإذن قوله: رسم> أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ قرآن> رسم> [الملك: 16]. آية> يعني: أأمنتم من في العلو، السمو: العلو يعني: أأمنتم الذي في العلو والذي هو عالٍ على كل شيء ومحيط بكل شيء، هذا تفسير السماء بمعنى العلو.
أو أن في بمعنى على، والتقدير: أأمنتم من على السماء، على بمعنى فوق، وتأتي في بمعنى على، قال تعالى عن فرعون رسم> وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ قرآن> رسم> [طه: 71]. آية> وليس معناه أنه ينحت لهم الجذع ويدخلهم في جوفه، وإنما المراد: عليه، وقال تعالى: رسم> فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ قرآن> رسم> [التوبة: 2]. آية> ليس معناه ادخلوا في جوف الأرض، بل معناه: سيحوا على الأرض.
والأشعرية أقرب إلى أهل السنة؛ حيث إنهم يعترفون ببعض الصفات، ولكن مسألة العلو مسألة شائكة لم يعترفوا بها، فلأجل ذلك خالفوا فيها أهل السنة، وأصبحوا مذبذبين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فالمعتزلة ترد عليهم وتسميهم الصفاتية، وتقذفهم بالعظائم، وتقول: مثلتم وجسمتم وشبهتم، حيث قلتم: لله حياة، والله يسمع، والله يبصر، والله يتكلم.
وأهل السنة يلومونهم ويردون عليهم فيما نفوه؛ حيث يقولون لهم: نفيتم مسألة العلو ومسألة الفوقية والاستواء وارتفاع الله على خلقه، ونفيتم سائر صفاته كرحمته ومحبته ونزوله إذا شاء ومجيئه لفصل القضاء وغضبه ورضاه وما أشبه ذلك، فأنتم لم تتمسكوا بالسنة ولم تسلكوا الطريق السوي الذي لا اضطراب فيه، فلأجل ذلك أصبحوا مذبذبين، وعلى كل فإنه لما كان مذهبهم منتشرا ومتمكنا في القرون الوسطى، كالقرن الرابع قل من أهله من ليس بأشعري، فالذين ليسوا بأشعريين متسترون، أي: أن غير الأشاعرة كانوا يسترون مذهبهم غالبا، وكذلك طوال القرن الخامس والسادس والسابع، أما في آخر القرن السابع وبداية الثامن فقد ظهر فيه وانتصر قول أهل السنة بسبب صراحة وقوة شيخ الإسلام ابن تيمية اسم> الذي صدع بذلك وجادل وهدى الله بواسطته خلقا كثيرا ناصروا مذهبه وساروا على طريقته من مذهبه ومن غير مذهبه، فلأجل كثرة من يتسمون بأنهم أشعرية، وفيهم علماء أجلة لهم مقامات رفيعة، ولهم خدمة للإسلام، نقول: إنهم متأولون ومقلدون في هذا المذهب، ولكنهم ملومون، أي: اقتصروا على التقليد، وتركوا اتباع النصوص حيث حكموا العقول وتركوا الرجوع إلى الأدلة النقلية، فهم مقصرون وإن كانوا معذورين بسبب أن هذا هو ما وصل إليه اجتهادهم والله يتولى أمرهم .
ومن هؤلاء العلماء: النووي اسم> صاحب رياض الصالحين، تجده يتأول في رياض الصالحين بعض الكلمات، فيتأول الاستماع في قوله: (ما أذن الله لأحد) قال أي: ما رضي ، ففسر الأذن يعني: الاستماع بالرضى والقبول، وهناك أحاديث كثيرة تأولها النووي اسم> -رحمه الله- في رياض الصالحين وفي غيره من كتبه كحديث النزول فقد تأوله في شرح مسلم اسم> وحديث الجارية ونحوه.
ومنهم ابن حجر اسم> صاحب فتح الباري، فإنه يتأول أيضا كثيرا من الصفات التي ترد في كتاب البخاري اسم> والبخاري اسم> -رحمه الله- من أهل السنة قد صرح بذلك في كتابه في أوله وفي آخره، ولكن ابن حجر اسم> يتأول الصفات تأويلات بعيدة، فيقول: هذا محال في حق الله، وهذا لا يليق بحق الله.
وقد ناقشه شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز اسم> رحمه الله في بعضها في أول الفتح.
ومنهم أيضا ابن عساكر اسم> الذي له التاريخ الكبير، وله تاريخ دمشق اسم> وغيره.
ومنهم من يقرب من مذهبهم من الحنابلة كأبي الوفاء بن عقيل اسم> وأبي الفرج ابن الجوزي اسم> فإنهم توغلوا في كتب أهل الكلام، فعلق بهم شيء من علم الكلام، رغم جهودهم التي بذلوها للإسلام، ومؤلفاتهم التي ردوا بها على كثير من طوائف أهل الأهواء والبدع.
ومن الشافعية أيضا الفخر الرازي اسم> صاحب التفسير الكبير ونحوه.
وبالجملة فيمكن أن نقول: جل علماء ذلك الزمن كانوا أشاعرة إلا من شاء الله.
مسألة>