إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم.       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه.    عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة) يجوز أن يعلم القبر بعلامات يعرف بها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم لما دفن عثمان بن مظعون جعل عند قبره حجرا وقال: "أعرف به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي". فيجوز أن يجعل علامة كحجر أو لبنة أو خشبة أو حديدة أو نحو ذلك، ليميز بها القبر عن غيره حتى يزوره ويعرفه.أما أن يكتب عليه فلا يجوز؛ لأنه قد نهي أن يكتب على القبور حتى ولو اسمه، وكذلك نهي أن يرفع رفعا زائدا عن غيره.
التعليقات الزكية على العقيدة الواسطية الجزء الأول
37762 مشاهدة
9- إثبات صفات الرضى والغضب والسخط والأسف والكره والمقت

[قوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [ البينة: 8]. وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ [النساء:93]. وقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [محمد: 28]. فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف: 55]. وقوله: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة: 46]. وقوله: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 3]. ] .


الشرح
* قوله: (قوله: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ).
هذه الآيات تضمنت صفات فعلية لله -جل وعلا- وكما هو معلوم أن صفات الله تعالى على قسمين:
الأول: الصفات الذاتية
والثاني: الصفات الفعلية
والفرق بينهما أن الصفات الذاتية هي الصفات اللازمة للموصوف دائما مثل: صفة الوجه، واليد، والسمع، والبصر، والكلام، والحياة، والعلم، والقدرة، ونحوها، فهي صفات ملازمة لله سبحانه، يعني: أنها ملازمة لذاته سبحانه، لا تنفك عنه بوجه من الوجوه.
أما الصفات الفعلية: فهي الصفات التي يفعلها إذا شاء متى شاء لا على وجه الدوام، وقد تعرف بأنها التي تقوم بالموصوف وقتا، ويقوم به ضدها في وقت آخر، مثل صفة النزول، والمجيء، والإتيان، والرضا، والغضب، ونحوها.
* وقد تضمنت الآية الأولى: إثبات صفة الرضى لله -سبحانه- وهي قوله سبحانه: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ [البينة: 8]. والرضا في المخلوق: هو انبساط القلب إلى المرضي عنه، وظهور البشر والفرح والسرور عليه، هذا في حق المخلوق، أما الرضا في حق الله فإنه حقيقي، ولكن لا نكيفه، ولا ندري ما كيفيته.
والدليل على أنه الرضا الحقيقي أنه قارنه برضا المخلوق رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ في عدة آيات في القرآن، منها هذه الآية في آخر سورة البينة، ومنها الآية التي في سورة التوبة: وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ [التوبة:100].
فأثبت أنه رضي الله عنهم، فدل على أنه يرضى، وأنهم رضوا عنه، ورضاهم قناعتهم بما أعطاهم، كما في الحديث الصحيح: إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: هل رضيتم، فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من العالمين؛ ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تثقل موازيننا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجينا من النار؟... الحديث فهذا رضا المخلوق، وأما رضا الخالق فهو -كما في بقية الحديث- أنه سبحانه يقول لهم: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا فأثبت أنه يرضى، وأن له رضى، وأثبت ضده وهو السخط، ومن الأدلة على أن الرضى ضد السخط.
* الآية الثانية: وهي قوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ [محمد: 28]. السخط هو الغضب، وهو ضد الرضا وقد أثبت الله لنفسه الغضب، وأثبت لنفسه السخط، ووصف نفسه بأنه يسخط ويرضى ويغضب.
فهؤلاء المنافقون: اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ يعني: اتبعوا الشيء الذي يسخطه ويغضبه، وهو عصيانهم وتمردهم عن طاعة الله.
وفي حديث الشفاعة المشهور يقول آدم ونوح وإبراهيم إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله .
فدل على أن الغضب صفة حقيقية ثابتة يتصف بها سبحانه إذا شاء متى شاء، فهي من الصفات الفعلية، ثم قال: وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فذكره بالاسم -رضوانه- أي: رضاه، وقد ورد الرضا بالاسم والفعل.
* الآية الثالثة: وهي قوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [الزخرف: 55]. فيها أيضا إثبات ضد الرضى وهو الأسف بمعنى الغضب أو شدة الغضب، قوله: فَلَمَّا آسَفُونَا يعني: أغضبونا، جعل الأسف مكان الغضب، يعني: أنهم اتبعوا الشيء الذي غضب الله عليهم لأجله، وقد سمى الله الغضب أسفا في قوله: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [الأعراف: 150]. يعني: غضبان غضبا شديدا.
فنقول: إن الله -سبحانه- يغضب ويأسف ويسخط كما يشاء، وهي من الصفات الفعلية.
* الآية الرابعة: وهي قوله تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93].
والشاهد منها قوله: وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ ففيها إثبات الغضب واللعن، واللعن: هو الطرد والإبعاد عن رحمة الله، والغضب صفة فعلية يتصف الله بها إذا شاء وقد أثبتها أهل السنة لله -سبحانه- على ما يليق به، ونفاها غالب المبتدعة؛ كالأشاعرة، والمعتزلة ونحوهم، فإنهم ينكرونها، يقولون: لا نعرف الغضب إلا أنه خاص بالمخلوق، ويقولون: إن الغضب هو غليان دم القلب لطلب الانتقام، وهذا لا يليق بالله، فيقال لهم: إن هذا ما تعرفونه من صفات المخلوق، فأما غضب الخالق فهو كما يليق به، والآيات في الغضب أيضا كثيرة منها قوله تعالى في آية اللعان: وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ [النور: 9]. فدل على أن الله يغضب إذا شاء.
* الآية الخامسة: وهي قوله تعالى: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ [التوبة: 46]. الشاهد قوله: كره ففيه إثبات الكره والكراهة بمعنى البغض، دل على أن الله يكره ويبغض إذا شاء، ومعنى الآية: أن الله تعالى كره خروج المنافقين مع المؤمنين للقتال، فحبسهم عن ذلك لحكمة.
فكره الله لخروجهم يفيدنا إثبات صفة الكراهية، وهي أيضا من الصفات الفعلية التي يتصف بها إذا شاء متى شاء.
*الآية السادسة: وهي قوله تعالى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 3]. فيها إثبات المقت، ومثلها قول الله تعالى: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ [غافر:10 ]. والمقت: هو البغض الشديد، دل ذلك على أن الله يمقت أي: يبغض وهو ضد الحب، وورد في الأحاديث إثبات صفة البغض لله تعالى كما في الحديث الصحيح: إن الله إذا أبغض عبدا نادى جبريل، فقال: إني أبغض فلانا فأبغضه .
فيجب علينا إثبات هذه الصفات التي جاءت في الكتاب والسنة، وهي صفة المقت والكراهية، وهي متقاربة، والكراهية ضد المحبة، ويجب إثبات الغضب والأسف، وهي متقاربة، واللعن والسخط والأسف.
وهذه الصفات -كما تقدم- هي صفات فعلية -يفعلها الله إذا شاء متى شاء- كما يليق به سبحانه، فنثبتها له سبحانه من غير تعطيل ولا تحريف ولا تمثيل ولا تكييف، فالله سبحانه يرضى إذا شاء ويغضب إذا شاء ويحب إذا شاء، ويكره ويبغض إذا شاء... إلخ.
فهي صفات فعلية اختيارية، قد تسمى أفعالا بالنسبة إلى ورودها بلفظ الفعل: كره ورضي، فهي أفعال، وتسمى صفات؛ حيث إنه يتصف بها ذلك الكاره والمحب، والمبغض ونحوه، ويجب إثبات كل ذلك على ما يليق بجلال الله وكماله.