إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم. إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية.    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع.
التعليقات الزكية على العقيدة الواسطية الجزء الأول
38848 مشاهدة
21- إثبات صفة العلو لله

[وقوله: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: 55]. بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: 158]. إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10]. يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر: 36 ، 37]. وقوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [الملك: 16، 17].


الشرح
* قوله: (وقوله: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ ).
هذه بعض الأدلة على مسألة العلو، وهو أن الله تعالى موصوف بصفة العلو؛ علو الذات، وعلو القدر، وعلو القهر، وكذلك الفوقية؛ فوقية الذات، وفوقية القدر، وفوقية القهر، وقد وردت فوقية الله في موضعين؛ موضع فيه احتمال، وموضع ليس فيه احتمال.
الموضع الذي فيه احتمال ورودها مجردة، وهو قوله تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 18]. والموضع الذي ليس فيه احتمال هو المقيد بمن في قوله: يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ [النحل: 50]. فإن هذا لا يقدرون على تأويله، ولا مجال لتأويله، وليس هناك أي احتمال أن المراد هنا فوقية القهر.
فعلو القهر بمعنى: السيطرة والغلبة، فالله تعالى عال على الخلق بمعنى قاهر لهم، ومسيطر ومتغلب عليهم، يقال: فلان قد تعلى على فلان يعني: استولى عليه وقهره، فهو عالٍ عليه، هذا علو القهر.
أما علو القدر، فهو العلو الذي بمعنى العظمة، أي: أن الله أعلى قدرا من غيره، والأعلى قدرا هو الأشرف والأفضل، تقول مثلا: الأمير أعلى قدرا من الخادم، وتقول: السيف أعلى قدرا من العصا، وما أشبه ذلك، هذا علو القدر، فالله تعالى أعلى قدرا من الخلق، يعني: أعظم وأشرف وأجل وأفضل، هذا في العلو.
ومثله الفوقية: الله تعالى فوق عباده فوقية غلبة وسيطرة، قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام: 18]. أي: الغالب والمسيطر، والمستولي عليهم بدون معقب، هذه فوقية القهر.
كذلك فوقية القدر، وهي بمعنى علو القدر، يعني: أنه فوقهم، أي: أعظم وأجل وأشرف وأعلى قدرا منهم، وهذان الأمران يثبتان في حق المخلوق، فيكون بعض الخلق أعلى قدرا وفوق غيره فوقية قدر، وكذلك أعلى قهرا، فيكون فوق غيره فوقية قهر، كما حكاه الله عن فرعون.
أما علو القهر فذكره في قول فرعون: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24]. بمعنى الغالب والمتسلط والمسيطر والمستولي، وليس معناه المرتفع، فإنه مساو لهم على الأرض، كذلك قوله: وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ [الأعراف:127]. هذه الفوقية بمعنى فوقية الغلبة، يعني: أننا غالبون وقاهرون، ومسيطرون ومستولون عليهم، هذه هي فوقية القهر وعلو القهر في، حق المخلوق.
كذلك علو القدر وفوقية القدر- ذكرنا أيضا أمثلتها، فإنه يقال مثلا: الأمير أعلى من المملوك، أو فوق المملوك، أي: فوقه قدرا، كما يقال: الذهب أعلى من الفضة، الذهب فوق الفضة، يعني: فوقه قيمة وفوقه مقدارا، فالله تعالى له علو القدر، وفوقية القدر، وله علو القهر وفوقيه القهر، وله أيضا علو الذات، يعني: أنه عالٍ على خلقه علوا حقيقيا، فهو فوقهم فوقية حقيقية.
وقد ذكرنا أن الله أثبت هذا العلو والفوقية بالذات في عدة مواضع لا مجال للرأي فيها، ولا يتمكن من تأويلها كلها، فمن ذلك آيات الاستواء السبع، ومن ذلك آيات الرفع، ومن ذلك آيات الصعود، ومن ذلك آيات العروج كقوله: تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]. وقوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة:5]. ومن ذلك الآيات التي فيها إثبات السماء، كهاتين الآيتين في سورة الملك، ومن ذلك آيات همِّ فرعون أن يصعد إلى السماء ليطلع إلى إله موسى لما ذكر له موسى أن ربه في السماء، ونحو ذلك من الأدلة الكثيرة.
هذه آيات دالة دلالة صريحة على أن الله موصوف بالعلو؛ علو الذات، والفوقية فوقية الذات، وإذا أثبتنا لله تعالى هذه الفوقية فإننا لا نقول بأن مخلوقا يحيط بالخالق أو يحصره تعالى، بل مخلوقاته التي هي حقيرة قد ذكر شيئا من عظمتها، وذكر عظمة الكرسي: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ [البقرة: 255]. أي: أن الكرسي قد اتسع للسماوات والأرض، وكذلك عظمة العرش ذكر أن الكرسي بالنسبة إلى العرش كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، فإذا كانت هذه عظمة الكرسي، وهذه حقارته بالنسبة إلى العرش عرفت عظمة العرش، فكيف بعظمة رب العرش وخالق الكون، فإنه تعالى لا يحيط به خلقه.
وبعد أن عرفت هذه المقدمة نذكر الآيات التي عندنا:
*الآية الأولى: من سورة آل عمران، وهي قوله تعالى: يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران: 55]. ذكروا أن عيسى لما هم اليهود بقتله ألقي عليه نوم شبه وفاة؛ وفاة نوم، فرفع إلى السماء في تلك الغشية حتى صعد به إلى السماء، الله تعالى ذكر أنه رفعه إليه: وَرَافِعُكَ إِلَيَّ فدل على أن الله فوق، والرفع لا مجال للتأويل فيه، وهو أوضح العبارات التي تدل على الفوقية، كما في قول ابن القيم لما ذكر معاني الاستواء، قال:
ولهـم عبـارات عليهـا أربـع قـد حـررت للعـالم الربـاني
وهي استقـر وقد علا وكذلك ار تفـع الـذي ما فيه من نكران

يعني: ما يستنكر دلالة الارتفاع أحد، ولا يقدرون على أن يؤولوه بتأويل بعيد، ومع ذلك فقد تأولوا قوله تعالى: وَرَافِعُكَ إِلَيَّ أي: رافعك إلى محل، الكرامة أو رافعك إلى محل لا يكون فيه ملك لغيري، تأويلات بعيدة، والله ذكر أنه رفعه إليه، فدل على أن الله في العلو، وأن عيسى رفع إلى الله.
* ومثلها الآية الثانية في سورة النساء، لما حكى الله عن اليهود ذكرهم أنهم قتلوه في قوله تعالى: وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ إلى قوله: بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ [النساء: 157، 158]. أي: رفعه من الأرض إلى الله في السماء، فدل على أن الله تعالى في السماء، وأنه فوق عباده، وأن عيسى رفع إلى الله، وتأويلهم لهذه الآية كتأويلهم للآية السابقة، وهي تحريفات بعيدة ولا يستطيعون أن يؤولوها تأويلا مقبولا.
* الآية الثالثة: وهي آية الصعود في سورة فاطر، وهي قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10]. جمع الله فيها بين الصعود والرفع، والصعود، هو الرقي إلى فوق، ومنه سمي المصعد؛ لأنه يرقى، فيقولون: صعد فلان إلى الجبل، وصعد فلان إلى السطح، بمعنى رقى، فكذلك قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ [فاطر: 10]. يعني: يرقى، والكلم الطيب هي الحسنات والأعمال الصالحة والأقوال الصالحة تصعد إلى الله، أي: ترقى إليه وتخترق الحجب وتدخل وتفتح لها أبواب السماء، وتصل إلى الله؛ لأنها تمجيد لله وتحميد له، وتعظيم له، فلا تحجب دونه، هذا معنى كونها تصعد إلى الله، فسر الكلم الطيب بأنه التسبيح والتحميد والتكبير والباقيات الصالحات، وفسر بأنه تعظيم الله وإجلاله، وذكره بجميع أنواع الذكر، وفسر بأنه كلامه إذا تلي وقرئ، فإنه يصعد إليه، وفسر بأنه دعاؤه إذا دعي بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وفسر بأنه الدعوة إليه، ولعل الجميع من الكلم الطيب.
ثم إن تأويل المعتزلة والأشاعرة لهذه الآية كغيرها وهو أنهم قالوا: إليه يصعد يعني: إلى ملكه، أو إلى حيث لا متصرف غيره أو إلى سمائه، ولم يعترفوا بأنها تصعد إلى الله، بل إلى سماء الله أو ما يختص بالله وهو تأويل بعيد، كذلك فسروا قوله: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: 10]. والرفع ظاهر أنه رفعه من الأرض إلى السماء، والعمل الصالح يرفعه يعني: أنه إذا قبله لكونه صالحا رفعه إلى السماء، تأولوا الرفع هنا بأنه القبول، فقالوا: يرفعه، أي: يقبله، وهو أيضا تأويل خاطىء، فالرفع ليس هو القبول وحده، ولا شك أن القبول معناه اعتبار ذلك العمل وعدم رده، وقد وردت أدلة تدل على أن الأعمال الصالحة تصعد إلى السماء، كالحديث الذي فيه: إذا صلى الرجل فأحسن الصلاة، صعدت إلى السماء ولها نور، فتفتح لها أبواب السماء، وتدعو لصاحبها، وتقول: حفظك الله كما حفظتني، وإذا صلى وأساء صلاته صعدت ولها ظلمة، فتغلق دونها أبواب السماء وتلعن صاحبها، وتقول: ضيعك الله كما ضيعتني، فتهبط إلى الأرض، وتلف كما يلف الثوب الخلق ويضرب بها وجه صاحبها ذكره الإمام أحمد في الرسالة السنية فدل على أن العمل الصالح يصعد إلى الله وتفتح له أبواب السماء، وهذا دليل على أن قوله: وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ أي: أنه يرفع إلى الله.
ومما يدل على ذلك أيضا الحديث الصحيح الذي يقول فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار، وعمل النهار قبل الليل فدل على أن العمل يرفع إلى الله؛ عمل النهار يرفع قبل أن تغيب شمس الليل، وعمل الليل يرفع قبل أن تطلع شمس النهار.
إذن، فكل التأويلات التي تأولت الرفع وصرفته عن معناه الحقيقي هي تأويلات باطلة، فالرفع لا تأويل له صحيح.
هناك آية ثانية في العروج لم تذكر هنا، وهي قوله تعالى في سورة السجدة: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة: 5]. والعروج: هو الرقي، عرج بي، أي: رقي بي، ومنه سمى المعراج لما عرج بالنبي -صلى الله عليه وسلم- إلى السماء، فقوله: ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ أي: ثم يرقى هذا الأمر إلى الله، فآيات العروج والصعود كلها دالة على الرفع، وكأن الصعود هو الرقي في سمت ارتفاع مستمر، مثل المصعد، فالصعود هو صعود إلى فوق.
وأما العروج فكأنه في درج، تقول: عرجت بفلان أي: رقيت به في درج أو نحوه؛ ولهذا ذكر النبي -عليه السلام- في قصة الإسراء والمعراج أنه كان هناك معراج صعد به، وعلى كل حال فالجميع يدل على الفوقية والرفع.
ومن آيات العروج أيضا قوله تعالى في سورة المعارج: سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج: 1- 4]. إذن المعارج هي المراقي تعرج معها الملائكة وتعرج معها الأرواح إلى الله، فدل أن الله فوق، وأنها تعرج إليه يعني: ترقى إليه، فهذه أدلة واضحة.
*الآية الرابعة: وهي في قصة فرعون، حكى الله عنه أنه قال: يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ [غافر: 36]. الصرح: هو البناء الرفيع، والأسباب، يعني: الحبال، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى [غافر: 37]. أي: حبال السماء فأصعد فيها حتى أصل إلى السماء فأطلع إلى إله موسى الذي يقول إنه في السماء لأنظر هل هو صادق أم لا وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا [غافر: 37]. هكذا ذكره الله في سورة المؤمن غافر، وكذلك في سورة القصص في قوله: فَأَوْقِدْ لِي يَاهَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ [القصص: 38]. لعلي أتخذ بناء رفيعا أصعد إليه حتى أصل إلى السماء لأنظر هل في السماء إله كما يقول موسى أم لا، فأنا أظن أنه من الكاذبين، ليس في السماء إله، هذا دليل على أن موسى بلغ فرعون أن إلهه في السماء.
ثم إن المعتزلة والأشعرية ونحوهم قالوا: إن هذا ظن من فرعون، وإن من اعتقد أن الله في السماء فقد تشبه بفرعون فهم عكسوا القضية، وقالوا: أنتم أيها المشبهة يا من تقولون: إن ربكم في السماء قدوتكم فرعون الذي قال: إن إله موسى في السماء، فكيف نجيب، وكيف نرد عليهم هذا القول؟ نقول لهم: فرعون جاحد منكر أن يكون هناك إله، بل يدعي أنه هو فقط فيقول: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى [النازعات: 24]. و مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص: 38]. فهو جاحد لا يقر بأن له إلها ولا ربا لا في السماء ولا في الأرض، فلما جاءه موسى وأخبره بأن هنالك إله، فلا بد أنه قد سأله أين هذا الإله الذي تزعم يا موسى ولا بد أن موسى أخبره بأن إلهه في السماء، ولو كان الله تعالى ليس في السماء بل في كل مكان كما تقوله المعتزلة، أو ليس في جهة؛ لما تكلف فرعون، ولما بنى ذلك الصرح، ولقال له موسى إن إلهي الذي أدعوك إليه ليس في السماء بل اطلبه في الأرض، واطلبه تحتك وعن يمينك وعن يسارك إلى آخره.
فهذا ونحوه دليل واضح على أنه تلقى هذا القول من موسى وإلا لم يتكلف بناء الصرح.
فالرفع هو الذي لا يستطيعون أن يؤولوه، أما الفوقية والعلو فقد قالوا: إن معنى العلو: الغلبة والقهر والسيطرة والملك والقدر والشرف وما أشبه ذلك، فأما الرفع فليس بإمكانهم تأويله، لكنهم مع ذلك تأولوه بأن المراد الرفع إلى المكان الذي لا ملك فيه لغير الله وهو السماء، وهو تأويل بعيد.
* الآية الخامسة: في سورة الملك، وهي قوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا [الملك: 16، 17]. يعني: هل تأمنون الله الذي في السماء أن يخسف بكم الأرض كما خسف بقارون؟ هل تأمنون الإله الذي في السماء أن يرسل عليكم حاصبا كما أرسله على من قبلكم، كعاد وثمود، لقوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ [العنكبوت: 40]. الذي في السماء وهو الذي يرسل عليهم الحاصب، وهو الذي يخسف بهم الأرض.
قالت المعتزلة والأشعرية: المراد: أأمنتم من في السماء أمره، أو من في السماء ملكه، قالوا: إنه على حذف مضاف مقدر، أي: من في السماء ملكه.
قلنا: ليس كذلك، فملكه ليس خاصا بالسماء؛ بل ملك الله في السماء، وفي الأرض، فلماذا خصص السماء، وكيف تقولون: من في السماء أمره؟
أليس أمره في السماء والأرض، كيف تقولون من في السماء ملكه؟ أليس ملكه في السماء والأرض، وبعضهم قال: المراد جبريل والمعنى: أأمنتم جبريل الذي في السماء أن يخسف بكم الأرض أو يرسل عليكم حاصبا.
فنقول: جبريل مملوك لله، جبريل مخلوق لا يفعل شيئا إلا بأمر الله كما حكى الله عنه أنه قال: وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [مريم: 64]. فهذا اعتراف جبريل بهذه الأمر، فإنه ليس له تسلط ولا تصرف إلا بأمر الله، فكيف يرسل الحاصب؟ بل الله تعالى هو الذي يرسله، كما في قوله تعالى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ إلى قوله: أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ [الإسراء: 68، 69]. في هذه الآية جمع بين الخسف وبين إرسال الحاصب، والله تعالى هو الذي يرسل ذلك.
فهذا في المشركين الذين يخلصون لله في الضراء، كما قال سبحانه: وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ [الإسراء: 67]. ذهبت عنكم آلهتكم إلا إياه فأخلصتم له فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا [الإسراء: 67]. ثم قال تعالى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ من الذي يفعل ذلك إلا الله -سبحانه وتعالى-؟، ثم قال: أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا وكذلك في الآية التي معنا: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا أي: ريحا أو صيحة أو حجارة تضربكم كما أرسلت على قوم لوط.
فالحاصل أن كلمة فِي السَّمَاءِ واضحة لا تأويل لها، ثم قول أهل السنة: إن الله في السماء، ليس معناه أن السماء تحيط به أو تحمله أو تقله أو تظله أو تحصره، فإن الله تعالى لا يحيط به مخلوق، فقوله تعالى: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ له معنيان:
الأول: أن تفسر في بمعنى على.
الثاني: أن تكون السماء بمعنى العلو، فإن السماء اسم لكل ما علا وارتفع، فكل ما علا فوقك فهو سماء، ومنه تسمية السقف سماء في قوله تعالى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ [الحج: 15]. يعني: سقف البيت ونحوه.
فإذن قوله: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك: 16]. يعني: أأمنتم من في العلو، السمو: العلو يعني: أأمنتم الذي في العلو والذي هو عالٍ على كل شيء ومحيط بكل شيء، هذا تفسير السماء بمعنى العلو.
أو أن في بمعنى على، والتقدير: أأمنتم من على السماء، على بمعنى فوق، وتأتي في بمعنى على، قال تعالى عن فرعون وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه: 71]. وليس معناه أنه ينحت لهم الجذع ويدخلهم في جوفه، وإنما المراد: عليه، وقال تعالى: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ [التوبة: 2]. ليس معناه ادخلوا في جوف الأرض، بل معناه: سيحوا على الأرض.
والأشعرية أقرب إلى أهل السنة؛ حيث إنهم يعترفون ببعض الصفات، ولكن مسألة العلو مسألة شائكة لم يعترفوا بها، فلأجل ذلك خالفوا فيها أهل السنة، وأصبحوا مذبذبين، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فالمعتزلة ترد عليهم وتسميهم الصفاتية، وتقذفهم بالعظائم، وتقول: مثلتم وجسمتم وشبهتم، حيث قلتم: لله حياة، والله يسمع، والله يبصر، والله يتكلم.
وأهل السنة يلومونهم ويردون عليهم فيما نفوه؛ حيث يقولون لهم: نفيتم مسألة العلو ومسألة الفوقية والاستواء وارتفاع الله على خلقه، ونفيتم سائر صفاته كرحمته ومحبته ونزوله إذا شاء ومجيئه لفصل القضاء وغضبه ورضاه وما أشبه ذلك، فأنتم لم تتمسكوا بالسنة ولم تسلكوا الطريق السوي الذي لا اضطراب فيه، فلأجل ذلك أصبحوا مذبذبين، وعلى كل فإنه لما كان مذهبهم منتشرا ومتمكنا في القرون الوسطى، كالقرن الرابع قل من أهله من ليس بأشعري، فالذين ليسوا بأشعريين متسترون، أي: أن غير الأشاعرة كانوا يسترون مذهبهم غالبا، وكذلك طوال القرن الخامس والسادس والسابع، أما في آخر القرن السابع وبداية الثامن فقد ظهر فيه وانتصر قول أهل السنة بسبب صراحة وقوة شيخ الإسلام ابن تيمية الذي صدع بذلك وجادل وهدى الله بواسطته خلقا كثيرا ناصروا مذهبه وساروا على طريقته من مذهبه ومن غير مذهبه، فلأجل كثرة من يتسمون بأنهم أشعرية، وفيهم علماء أجلة لهم مقامات رفيعة، ولهم خدمة للإسلام، نقول: إنهم متأولون ومقلدون في هذا المذهب، ولكنهم ملومون، أي: اقتصروا على التقليد، وتركوا اتباع النصوص حيث حكموا العقول وتركوا الرجوع إلى الأدلة النقلية، فهم مقصرون وإن كانوا معذورين بسبب أن هذا هو ما وصل إليه اجتهادهم والله يتولى أمرهم .
ومن هؤلاء العلماء: النووي صاحب رياض الصالحين، تجده يتأول في رياض الصالحين بعض الكلمات، فيتأول الاستماع في قوله: (ما أذن الله لأحد) قال أي: ما رضي ، ففسر الأذن يعني: الاستماع بالرضى والقبول، وهناك أحاديث كثيرة تأولها النووي -رحمه الله- في رياض الصالحين وفي غيره من كتبه كحديث النزول فقد تأوله في شرح مسلم وحديث الجارية ونحوه.
ومنهم ابن حجر صاحب فتح الباري، فإنه يتأول أيضا كثيرا من الصفات التي ترد في كتاب البخاري والبخاري -رحمه الله- من أهل السنة قد صرح بذلك في كتابه في أوله وفي آخره، ولكن ابن حجر يتأول الصفات تأويلات بعيدة، فيقول: هذا محال في حق الله، وهذا لا يليق بحق الله.
وقد ناقشه شيخنا العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله في بعضها في أول الفتح.
ومنهم أيضا ابن عساكر الذي له التاريخ الكبير، وله تاريخ دمشق وغيره.
ومنهم من يقرب من مذهبهم من الحنابلة كأبي الوفاء بن عقيل وأبي الفرج ابن الجوزي فإنهم توغلوا في كتب أهل الكلام، فعلق بهم شيء من علم الكلام، رغم جهودهم التي بذلوها للإسلام، ومؤلفاتهم التي ردوا بها على كثير من طوائف أهل الأهواء والبدع.
ومن الشافعية أيضا الفخر الرازي صاحب التفسير الكبير ونحوه.
وبالجملة فيمكن أن نقول: جل علماء ذلك الزمن كانوا أشاعرة إلا من شاء الله.