(يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم. الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا إذا كان عقل المريض معه وفهمه وإدراكه فإن الأوامر والأحكام الشرعية تنطبق عليه، ويكلف بالصلاة والصوم والطهارة ونحوها بحسب القدرة، ويجوز مساعدته على الطهارة إن قدر على غسل أعضائه، فإن عجز عن استعمال الماء في أعضائه وشق غسلها عليه عدل إلى التيمم، فإن عجز فإن المرافق يقوم بذلك بأن يضرب التراب فيمسح وجهه وكفيه مع النية. من كان مسافرا ولم يصل المغرب والعشاء فأدرك العشاء خلف إمام مقيم فالمختار أنه يصلي المغرب وحده، فإذا صلاها دخل معه في بقية العشاء، وذلك لاختلاف النية؛ فإن المغرب والعشاء متفاوتان بينهما فرق في عدد الركعات. هذا الذي نختاره. وأجاز بعض المشائخ أنه يدخل معهم بنية المغرب، فإذا صلوا ثلاثا فارقهم وتشهد لنفسه وسلم، ثم صلى العشاء، ولكل اجتهاده
التعليقات الزكية على العقيدة الواسطية الجزء الأول
38858 مشاهدة
بعد الحمد جاء بالشهادتين

[ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقرارا به وتوحيدا] .


الشرح
بعد أن حمد الله وأثنى عليه جاء بالشهادتين. وقد رُوي في بعض الأحاديث: كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء أي: المقطوعة والمشلولة، ولكنه حديث ضعيف.
* قوله: (وأشهد أن لا إله إلا الله).
هذه الشهادة الأولى وهي المقدمة، وهي متضمِّنة للشهادة الثانية المتضمنة للعبادة كلها؛ فشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي إفراد وتخصيص الله بالألوهية
والألوهية مأخوذة من التأله وهو التعبد؛ يعني: التحبب والتودد إليه سبحانه، ويدخل في ذلك كل أنواع التعبد.
والعبادة هي كما قال ابن القيم -رحمه الله- غاية الحب مع غاية الذل ولهذا قال- رحمه الله تعالى- في نونيَّته:
وعبـادة الرحمن غاية حبه مع ذلِّ عابده هما قطبان

أي: ركنان أساسيان.
وهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة كما عرَّفها شيخ الإسلام -رحمه الله- بذلك .
فيدخل فيها قول القلب واللسان وعمل القلب والجوارح، فعندما تشهد لله -سبحانه وتعالى- بتوحده وتفرده بالألوهية والعبادة، فكأنك تعترف بأنه يجب عليك أن تتألهه.
كيف تشهد أن لا إله إلا هو ولا تتألَّهه سبحانه؟!
كيف تقر بأنه إلهك ولا تألَّهُهُ؟!
فالتأله هو التذلل والتعبد، أي: الطاعة والاتباع والامتثال مع المحبة والخوف والتعظيم، أو باختصار: هو غاية الحب مع غاية الذل.
فإن قولك: أشهد أن لا إله إلا الله، أي: أقر واعترف أنه لا معبود بحق إلا الله.
وقد اشتملت هذه الكلمة على نفي وإثبات، فالنفي (إلا إله) والإثبات (إلا الله).
* قوله: (وحده لا شريك له).
تأكيد لذلك الإقرار (وحده) تأكيد للإثبات (إلا الله)، (لا شريك له) تأكيد للنفي (لا إله).
فهو سبحانه لا شريك له في عبوديته، كما أنه لا شريك له في ملكه وفي أسمائه الحسنى وصفاته العلى.
* قوله: (إقرارا به وتوحيدا) أي: اعترافا باللسان بأنه لا معبود بحق سواه، (توحيدا) أي: إفرادا وإخلاصا له بذلك سبحانه وتعالى في كل عبادة قولية أو فعلية أو اعتقادية.
تنبيهات:
التنبيه الأول:
إن المقصود من هذه الكلمة معرفة معناها لا مجرد التلفظ بها، فأما من أتى بحروفها ولم يعمل بها فإنها لا تنفعه يوم القيامة، ولا تكون سببا لنجاته من النار والعياذ بالله.
فالغاية من قولنا: لا إله إلا الله هي أن نتخذه إلها ومعبودا ولا نؤلِّه غيره، والتأله كما تقدم هو التحبب والتودد إليه سبحانه؛ فلا بد لمن يعمل بلا إله إلا الله أن يحب الله من كل قلبه أعظم محبة، ولا بد له أيضا أن يتذلل لله وأن يتواضع له غاية التواضع، وأن يعظمه غاية التعظيم، ويرجوه غاية الرجاء، ويخافه أشد الخوف، ويخشع ويخضع له سبحانه.
فإذا كان كذلك فإنه يكون قد حقق العبادة ولا بد مع ذلك أن يخلع تأله غير الله من قلبه؛ فلا يذل لغيره، ولا يخضع لغيره، ولا يخاف سواه، ولا يرجو إلا إياه، ولا يحب غيره كمحبته، ونحو ذلك، ومن كان كذلك فإنه يكون من أهل لا إله إلا الله.
وأما الذين يقولونها بألسنتهم ثم يقعون في خلافها وفيما ينقضها فإنها لا تنفعهم؛ لأنهم جهلاء بمدلولها، فهم يقولونها وهم معتقدون أن من تلفظ بها فقد عصم ماله ودمه وحسابه على الله، ولكنهم ما عرفوا أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يجعل التلفظ بها عاصما للدم والمال بل ولا معرفة معناها مع لفظها، بل ولا الإقرار بذلك، بل أضاف إلى ذلك الكفر بما يعبد من دون الله .
التنبيه الثاني:
إن كثيرا من الناس يفسرون لا إله إلا الله بأنه لا خالق إلا الله، أو لا رازق إلا إياه، أو نحو ذلك، أو يقولون إن معناها: لا نعبد إلا الله ولا نصلي إلا له... إلخ.
لكنهم لا يدرون ما معنى العبادة التي خلقوا من أجلها فيصرفونها لغير الله ولا يشعرون بذلك؛ فإن كل طواعية لمخلوق وذل له وخضوع له هو عبادة له في الحقيقة، فمن صرفها لقبر ميت، أو لقبر ولي، تذلل له، وخضع ودعاه، وناداه وهتف باسمه، وذبح له مثلا، فإنها عبادة له في الحقيقة، وإن لم يعترف بذلك.
فهذا ما عبد الله حق عبادته، بل أشرك به سبحانه؛ فلا يكون من أهل كلمة لا إله إلا الله الذين تعصم دماؤهم وأموالهم.
التنبيه الثالث:
ليعلم أن لهذه الكلمة العظيمة شروطا سبعة لا بد من معرفتها:
أولها: العلم المنافي للجهل؛ والدليل قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد: 19]. والذين يقولونها ولا يعلمون معناها قد يقعون في خلافها أو في ما يناقضها، فلا بد من العلم بمعناها.
الثاني: اليقين المنافي للشك؛ لأن المنافقين قد يقولونها لكنهم لا يوقنون بمضمونها، بل يشكون في ذلك، قال -صلى الله عليه وسلم- أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما إلا دخل الجنة .
وقال -صلى الله عليه وسلم- من لقيت وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه فبشره بالجنة .
الثالث: الإخلاص المنافي للشرك؛ لأن بعضا من الناس قد يقولونها ولكنهم لا يخلصون دينهم لله، بل يصرفون بعضه لغير الله كاليهود مثلا، قال تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة:5]. وقال -صلى الله عليه وسلم- حينما سئل: من أسعد الناس بشفاعتك، فقال -عليه الصلاة والسلام- من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه أو نفسه .
الرابع: الصدق المنافي للكذب؛ لأن هناك من يقولها بلسانه ولكن قلبه مكذب بها، فلا يكون صادقا في تلفظه بها، قال -صلى الله عليه وسلم- ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله صدقا من قلبه إلا حرمه الله على النار .

الخامس: المحبة المنافية للكره والبغض؛ فلا بد أن يكون قائلها محبًا لله غاية المحبة، ومحبا كذلك لعبادة الله.
السادس: الانقياد المنافي للتردد أو التكبر، فلا بد أن يكون قائلها مقبلا على عبادة الله بكل قلبه.
السابع: القبول المنافي للرد؛ فيجب على من قالها أن يتقبل كل ما جاء عن الله على ألسنة الرسل فلا يرد شيئا من لوازمها ومقتضياتها.
التنبيه الرابع:
قال شارح العقيدة الطحاوية وكذلك شهد الله لنفسه بهذا التوحيد، وشهدت به ملائكته وأنبياؤه ورسله: قال تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [آل عمران:18 ].
فتضمنت هذه الآية الكريمة إثبات حقيقة التوحيد، والرد على جميع طوائف الضلال، فتضمنت أجل شهادة وأعظمها وأعدلها وأصدقها، من أجل شاهد، بأجل مشهود به.
وعبارات السلف في شهد تدور على الحكم والقضاء، والإعلام والبيان، والإخبار، وهذه الأقوال كلها لا تنافي بينها، فإن الشهادة تتضمن كلام الشاهد وخبره، وتتضمن إعلامه وإخباره وبيانه، فلها أربع مراتب:
فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته.
وثانيها: تكلمه بذلك، وإن لم يُعلم به غيره، بل يتكلم بها مع نفسه ويذكرها وينطق بها، أو يكتبها.
وثالثها: أن يعلم غيره بما يشهد به، ويخبره به، ويبينه له.
ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به . ا. هـ