شرح أصول السنة لإمام أهل السنة أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله تعالى 164-241 هـ
ترجمة موجزة لصاحب المتن إمام أهل السُّنّة أحمد بن حنبل رحمه الله
نسبه ومولده:
هو: أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال العربي العدناني الشيباني اسم> إمام الفقه والحديث، يكنى بأبي عبد الله اسم> قدِم به أبوه من مرو اسم> حملًا في بطن أمه فهو مروزي.
وولد ببغداد اسم> ونشأ فيها فهو بغدادي.
وقد ولد الإمام في شهر ربيع الأول عام 164 هـ.
عِلمه:
طلب العلم طلبًا عاديًّا فلم يطلب الحديث، ولم يجلس بين يدي رجاله إلا بعد أن بلغ السادسة عشرة من عمره، كما ذكر ذلك غير واحد من المؤرخين له، غير أنه فارق دياره ورحل في طلب الحديث والفقه فيه، فجاب البلاد طولًا وعرضًا، ورحل إلى اليمن اسم> ماشيًا على قدميه، لقلة ذات يديه، وأقام بها زهاء العامين يطلب الحديث من رجالها كعبد الرزاق اسم> صاحب المصنف، ونالته في ذلك مشقة كبيرة ظهرت على جسمه وصحته العامة.
ولمّا وصل مكة اسم> وقيل له: أجهدت نفسك يا أبا عبد الله اسم> قال -رحمه الله- ما أهون المشقة فيما استفدنا من عبد الرزاق اسم> كتبنا عنه حديث الزهري اسم> عن سالم بن عبد الله اسم> عن أبيه، وحديث الزهري اسم> عن سعيد بن المسيب اسم> عن أبي هريرة اسم> .
كما روى الحديث عن يحيى بن معين اسم> وإسحاق بن راهويه اسم> والشافعي اسم> -رحمهم الله تعالى- وقد دعاه إلى زيارة مصر اسم> فلم يقدر لعجزه المادي، ولما التقى به في رحلته الثانية إلى بغداد اسم> قال له: يا أبا عبد الله اسم> إذا صح الحديث عندك فأعلمني به أذهب إليه حجازيًّا كان أو شاميًّا، أو عراقيًّا، أو يمنيًّا، قال ابن كثير اسم> -رحمه الله تعالى- إن في قول الشافعي اسم> هذا لأحمد اسم> لإجلالًا كثيرًا وشهادة في العلم عظيمة.
وحسب الإمام شهادة مسنده الذي خرَّجه من سبعمائة ألف حديث وخمسين ألفًا، وجمع فيه من الحديث ما كاد يحوي الكتب الستة إلا قليلا، وقال ولده عبد الله اسم> كان أبي يحفظ ألف ألف حديث، أي: مليون حديث.
شهادات العلماء بسعة علمه:
وها هي ذي شهادات العلماء بالعلم والسعة فيه، والفضل والكمال لديه.
قال الإمام الشافعي اسم> خرجت من العراق اسم> فما تركت رجلا أفضل ولا أعلم ولا أورع ولا أتقى من أحمد بن حنبل اسم> .
وقال البخاري اسم> لما ضُرب أحمد بن حنبل اسم> كنا بالبصرة اسم> فسمعت أبا الوليد الطيالسي اسم> يقول: لو كان أحمد اسم> في بني إسرائيل لكان أُحدوثة.
وقال أبو عمر النحاس اسم> وقد ذكر أحمد اسم> يومًا: في الدين ما كان أبصره! وعن الدنيا ما كان أصبره! وفي الزهد ما كان أخيره! وبالصالحين ما كان ألحقه! وبالماضين ما كان أشبهه! عرضت عليه الدنيا فأباها، والبدع فنفاها!
وقال علي بن المديني اسم> إذا ابتليت بشيء فأفتاني أحمد اسم> لم أُبَالِ إذا لقيت ربي كيف كان؟
وقال يحيى بن معين اسم> كان في أحمد بن حنبل اسم> خصال ما رأيتها في عالم قط، كان محدثًا وكان حافظًا، وكان زاهدًا وكان عاقلًا.
وقال أبو زرعة الرازي اسم> ما أعرف في أصحابنا أسود الرأس أفقه منه، يعني أحمد بن حنبل اسم> -رحمهم الله تعالى- أجمعين.
قوة حجته في علمه:
فحسبنا للكشف عنها وإثباتها أن نورد بعض ما كان يرد به على أسئلة المبتدعة المبطلين من المعتزلة المارقين في مجلس الامتحان أيام المحنة.
قال المعتصم اسم> ناظره يا عبد الرحمن اسم> كَلِّمْه، فقال عبد الرحمن اسم> ما تقول في القرآن؟ فأبى أن يجيب ويسأل عبد الرحمن اسم> قائلًا: ما تقول في علم الله؟ فلم يجب عبد الرحمن المعتزلي اسم> فيقول أحمد اسم> إن القرآن من عِلم الله فمن زعم أن القرآن مخلوق فقد زعم أن علم الله مخلوق، ومن قال بذلك فقد كفر.
فقال المعتزلي اسم> إن الله كان في الأزل ولم يكن معه القرآن.
فيقول الإمام أحمد اسم> لقد قلت: إن القرآن من علم الله، فإذا قال قائل: كان الله ولا قرآن معه فكأنه قال: كان الله ولا علم له.
المعتزلي اسم> هو ضال مبتدع يا أمير المؤمنين.
الإمام أحمد اسم> يا أمير المؤمنين يأتوني بآية من كتاب الله أو بسنَّة من سنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى أجيبهـم إليها.
المعتزلي اسم> فأنت لا تقول إلا ما في كتاب الله وسنَّة رسوله؟
الإمام أحمد اسم> وهل يقوم الإسلام إلا بهما.
المعتزلي اسم> إن الله يقول: رسم> خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ قرآن> رسم> والقرآن شيء فهو إذًا مخلوق!
الإمام أحمد اسم> إن هذه الآية عامة أريد بها الخصوص لا العموم، كقوله -تعالى- عن الريح التي أهلك بها قوم هود اسم> رسم> تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا قرآن> رسم> فهل دمرت كل شيء حقًّا، أو أنها لم تدمر إلا ما أراد الله؟
المعتزلي اسم> إن الله -تعالى- يقول: رسم> مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ قرآن> رسم> فهل يكون مُحْدَثًا إلا المخلوق؟
الإمام أحمد اسم> إن الذكر هو في القرآن جاء في قوله -تعالى- رسم> ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ قرآن> رسم> فهو هنا معرف بالألف واللام، وفي الآية الأولى بدون الألف واللام فهذه غير تلك.
المعتزلي اسم> إن عمران بن حصين اسم> يروي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قوله: رسم> إن الله خلق الذِّكر رسم> وفي ذلك تقرير من النبي-صلى الله عليه وسلم- بأن القرآن مخلوق.
الإمام أحمد اسم> أخطأت، فالرواية التي رويناها عن عمران اسم> وغيره من ثقات أهل الحديث هي: رسم> إن الله كتب الذكر رسم> .
المعتزلي اسم> أليس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: رسم> تقرَّب إلى الله ما استطعت، فإنك لن تتقرب إلى الله بشيء هو أحب إليه من كلامه رسم> .
الإمام أحمد اسم> بلى، رُوي ذلك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
المعتزلي اسم> إن فيه دليلا على أن القرآن مخلوق!
الإمام أحمد اسم> لست أجد فيه هذا الدليل!
المعتزلي اسم> إذا قرأت القرآن لتتقرب به إلى الله -تعالى- أليست كلمات مؤلفة من حروف وأصوات، وهل يتألف من حروف وأصوات إلا الكلام المخلوق ؟ فهل نجد لك مفرًّا بعد إذ أمرنا الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن نتقرب إلى الله بتلك الألفاظ إلا أن تسلم بأن القرآن مخلوق!
الإمام أحمد اسم> القرآن كلام الله قديم غير مخلوق، وأما أفعالنا فيه إذا كتبناه أو تلفظنا به فهي مخلوقة، ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: رسم> زَيِّنوا القرآن بأصواتكم متن_ح> رسم> فالقرآن إذًا غير أصواتنا المخلوقة التي نُزَيِّنه بها، الكلام كلام البارئ، والصوت صوت القارئ .
المعتزلي اسم> إن تشك بأن القرآن كلام الله غير مخلوق معناه أنك تنسب إلى الله -تعالى- جوارح يتكلم بها كالمخلوقين وتشبيه الخالق بالمخلوقات كُفر!.
الإمام أحمد اسم>: هو أحد صمد، لم يلد، ولم يولد، لا عدل له ولا شبيه، وهو كما وصف نفسه. حدثني عبد الرزاق اسم> عن معمر اسم> عن الزهري اسم> عن سالم اسم> عن أبيه أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: رسم> إن الله كلَّم موسى اسم> بمائة ألف كلمة وعشرين ألف كلمة وثلاثمائة كلمة، وثلاث عشرة كلمة، فكان الكلام من الله والاستماع من موسى اسم> فقال موسى اسم> أي ربِّ، أنت الذي تكلمني أم غيرك؟ قال الله -تعالى- يا موسى اسم> أنا أكلمك لا رسول بيني وبينك رسم> فهذا ما يخبر به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن ربه، وأنا ما أقول إلا ما يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
المعتزلي اسم> كذبت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
الإمام أحمد اسم> إن يك هذا كذبًا مني على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فقد قال الله -تعالى- رسم> وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا قرآن> رسم> .
وقال: رسم> وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ قرآن> رسم> فهو قول منه، وليس خلقًا.
من خلال هذا الحوار الذي دار بين الإمام وبين المعتزلة الخصوم، تتجلى لنا حقيقة أن أحمد بن حنبل اسم> كان قوي الحجة وذلك ما رُمناه من عرض هذا الجزء من المناظرة التي دامت أيامًا بين الإمام وخصومه وانتصر فيها حقه على باطلهم.
تلامذته:
وخلَّف الإمام عددًا من العلماء أخذوا عنه الحديث والفقه وكانوا جهابذة محققين، خدموا السُّنّة وحققوا مذهب أحمد اسم> وكان لهم مؤلفات وتلاميذ إلى يومنا هذا. وهذه نتيجة حمل العلم والعمل به، ومن تلاميذه عدد من شيوخه كان يأخذ عنهم العلم مثل يزيد بن هارون اسم> وعبد الرزاق اسم> وابن مهدي اسم> .
ومن تلاميذه: البخاري اسم> ومسلم اسم> وأبو داود اسم> وعلي بن المديني اسم> وابناه صالح اسم> وعبد الله اسم> وابن عمه حنبل بن إسحاق اسم> وأبو زُرعة الرازي اسم> وأبو بكر أحمد بن محمد بن هانئ الطائي اسم> وأبو حاتم الرازي اسم> وموسى بن هارون اسم> وعثمان بن سعيد الدارمي اسم> .
مؤلفاته:
أهم مؤلفات الإمام أحمد اسم> المسند الذي ارتبط باسمه فلا يُذكر الإمام إلا ويذكر المسند. وهو كتاب عظيم القدر كبير الفائدة. قال عنه الإمام: إن هذا الكتاب قد جمعته، وانتقيته من أكثر من سبعمائة وخمسين ألفًا فما اختلف فيه المسلمون من حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فارجعوا إليه فإن كان فيه وإلا ليس بحجة.
وقد التزم بألا يجعل فيه سوى الحديث الصحيح المتن والإسناد، حيث انتقى ما بين الثلاثين والأربعين ألف حديث، وجعلها في مسنده، وشملت هذه الأحاديث الرواية عن سبعمائة صحابي -رضي الله عنهم-.
وكان الإمام يحفظ السبعمائة والخمسين ألف حديث وغيرها. والمسند الموجود بين أيدي الناس مأخوذ عما دوَّنه الإمام بيده ونقله عنه ابنه أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد اسم> وقد أمضى الإمام سنين طويلة في تأليفه، وشملت أحاديثه جميع أبواب الحديث التي نظمها المحدِّثون، لكن كان جُلّ هدف أحمد اسم> من جمع المسند هو انتقاؤه وتخليصه من الشوائب. وقد قرأه بنفسه على ابنيه صالح اسم> وعبد الله اسم> وعلى عمه إسحاق بن حنبل اسم> إكمالًا لضبطه، وصدقًا في روايته.
ومن المناسب هنا أن نثبت السبب في عدم انتشار المسند بين أيدي المسلمين جميعًا انتشارًا متداولًا كصحيحي البخاري اسم> ومسلم اسم> لأنه -رحمه الله- رتَّبه على أسانيد الصحابة، ولم يجعله على الترتيب الذي اصطلح عليه المحدِّثون والفقهاء، فكان ذلك عائقًا للبعض عن اتخاذه مرجعه الأول، وكذلك طوله وعدم قيام أحد بترتيبه في الزمن الأول...!
أما ما عدا المسند فلم يهتم الإمام أحمد اسم> بالتأليف بعد هذا وانشغل بالتدريس؛ لاعتقاده أن العلم يؤخذ من أفواه الرجال..
وله بعض رسائل صغيرة كتبها في مناسبات، منها:
1- الرد على الجهمية..
2- كتاب الصلاة..
3- كتاب السُّنَّة..
4- كتاب الورع - الإيمان..
5- كتاب الزهد..
6- كتاب فضائل الصحابة..
زهده وورعه:
إن الزهد لتقليل الدنيا وهي قليلة، واحتقارها وهي حقيرة، ولو كانت تساوي عند الله جناح بعوضة لما سقى الكافر منها جرعة ماء، والرغبة عنها إلى الآخرة إيمانًا بها وبخيراتها ودوامها والآخرة خير وأبقى، كما أن الورع هو الكف عن شهواتها وترك محرماتها والتقلل من مباحاتها، والبعد عن متشابهاتها طلبًا للسلامة منها حتى يترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس.
وبناءً على هذا، فإن الزهد والورع كل منهما صفة كمال في الإنسان المسلم، وهما سلم إلى درجات الفضل والكمال والتفاوت بينهما عظيم جدًّا، ومن هنا لم يكن أهل الورع والزهد في درجة واحدة بل بينهما من التفاضل ما الله به عليم، وهذا الإمام أحمد اسم> بين أهل الزهد والورع، يعتبر مثالًا عاليًا، وقدوة صالحة فلم يسبقه في هذا المجال أحد، ولم يلحقه آخر، والروايات التالية، وهي صحيحة السند إلى الإمام أحمد اسم> أخرجها البيهقي اسم> ورواها عنه ابن كثير اسم> في بدايته تثبت الحقيقة وتؤكدها.
ولنكتفِ في باب الورع بروايتين منها فقط:
الأولى: قال يومًا الشافعي اسم> لهارون الرشيد اسم> يا أمير المؤمنين، إن اليمن اسم> يحتاج إلى قاض، فقال له الرشيد اسم> اختر رجلًا نُوَلِّه إياه، فقال الشافعي اسم> لأحمد اسم> وكان يتردد عليه لطلب العلم: ألا تقبل قضاء اليمن اسم> يا أحمد اسم> ؟ فقال أحمد اسم> إنما أختلف إليك لطلب العلم المزهد في الدنيا، فتأمرني أن آتي القضاء، ولولا العلم لما كلمتك بعد اليوم!!
فاستحى منه الشافعي اسم> وسكت.
إن رغبة أحمد اسم> عن الولاية وهي مما يتسابق الناس إليه ويتنافسون في الوصول عليه، بل مما يتقاتلون على طلبه والظفر به لم تكن إلا ورعًا منه؛ إذ طلب الولاية مباح، ولكن تركها أحمد اسم> وهي لا بأس بها خشية الوقوع فيما به بأس.
والثانية: أنه جاع ثلاثة أيام؛ لقلة ذات يده فاستقرض دقيقًا من أحد إخوانه ولمَّا وصل إلى أهله عرفوا حاجته إليه فأسرعوا في خبزه وإنضاجه ووجدوا تنورًا لولده صالح اسم> مسجورًا فأنضجوا قرص الخبز فيه، فلما قُدِّم إلى أحمد اسم> وكأنه لاحظ سرعة تقديم الخبز له فسألهم فأخبروه أنهم طبخوه في تنور صالح اسم> ولده وكان صالح اسم> يتقاضى راتبًا من الدولة فامتنع من أكله وواصل جوعه من ورعه.
فأي ورع أعظم من هذا الورع، أمن أجل أن ولده يأخذ الجوائز المالية من السلطان يمتنع من أكل خبز يطبخ في تنّوره المسجور، وهو ولده والولد وماله لوالده؟ فضرب أحمد اسم> بهذا رقمًا قياسيًّا في الورع لا يمكن أن يناله أحد سواه.
أما عن زهده -رحمه الله تعالى- فحدِّثْ ولا حرج، قال أبو داود اسم> -رحمه الله تعالى- كانت مجالس أحمد اسم> مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، وما رأيت أحمد اسم> ذكر الدنيا قط.
ولم يكن هذا منه -رحمه الله تعالى- إلا احتقارًا للدنيا وعدم التفات إليها؛ وذلك لقلتها وسرعة زوالها وهذا هو الزهد في الدنيا.
وحكى ولده عبد الله اسم> -رحمهما الله تعالى- معًا فقال: كنا في زمن الواثق اسم> الخليفة العباسي في ضيق شديد فكتب أحد الصالحين إلى أبي- لا شك أنه سمع بحاجة أحمد اسم> وما هو فيه من ضيق- كتب إليه: إن عندي أربعة آلاف درهم ورثتها من أبي، وليست صدقة ولا زكاة، فإن رأيت أن تقبلها أبعثها إليك. فامتنع أحمد اسم> من قبولها، فكرَّر عليه الرجل قبولها فأبى أن يقبلها ورضي بحاجته وما به من خصاصة.
وعرض عليه أحد التجار عشرة آلاف درهم ربحها من بضاعة جعلها باسمه فأبى أن يقبلها، ورد عليه قائلًا: نحن في كفاية، وأنت جزاك الله عن قصدك خيرًا، كما عرض عليه شيخه عبد الرزاق اسم> باليمن اسم> يومًا ملء كفه دنانير وهو في أَمَسِّ الحاجة إليها لنفاد ماله وانقطاعه عن بلده فلم يقبلها.
وأعظم من هذه وسابقتها أنه سرقت ثيابه باليمن اسم> فجلس في بيته ورد عليه الباب، وفقده أصحابه فجاءوا إليه فسألوه فأخبرهم فعرضوا عليه ذهبًا فلم يقبله، ولم يأخذ منهم إلا دينارًا واحدًا، ليكتب لهم به، فكتب لهم مقابله فكان أخذه منهم بأجرة عمل، ولم يكن بإحسان.
صبره على المكاره وثباته على المبدأ:
إن كان الصبر هو حبس النفس على الطاعة بحيث لا تتركها في سراء ولا ضراء، وحبسها عن المعصية فلا تغريها في يسر ولا في عسر، وحبسها على البلاء فلا تضجر ولا تجزع، فإن الإمام أحمد اسم> كان بذلك إمام الصابرين، وقدوتهم بحق. فقد صبر في مواطن الصبر كلها فلم يضعف ولم يهن بحال من الأحوال حتى غدا صبره في محنته مضرب الأمثال، وأغنى بمحنته تلك التي امتحن فيها ببدعة القول بخلق القرآن حيث أن الخليفة المأمون اسم> العباسي كان قد استحوذ عليه جماعة من المعتزلة فأزاغوه عن طريق الحق -كما قال ابن كثير اسم> - وزينوا له القول بخلق القرآن ونفي الصفات عن الله -عز وجل- واتفق أن خرج إلى غزو الروم اسم> فكتب إلى نائبه ببغداد اسم> وهو إسحاق بن إبراهيم بن مصعب اسم> يأمره أن يدعو الناس إلى هذه البدعة، فلما وصل الكتاب إليه قام فاستدعى أئمة الحديث ودعاهم إلى هذا الباطل فامتنعوا فهددهم بالضرب وقطع الرواتب والأرزاق فأجاب أكثرهم مكرهين، واستمر على الامتناع أحمد بن حنبل اسم> وآخر يقال له: محمد بن نوح اسم> فحملهما على بعير وسُيِّرَا إلى الخليفة، حيث أمر بهما، وكان ببلاد الرحبة اسم> جاءهما رجل من الأعراب يقال له: جابر بن عامر اسم> فسلم على الإمام أحمد اسم> وقال له: يا هذا، إنك وافد الناس فلا تكن شؤمًا عليهم وإنك رأس الناس اليوم فإياك أن تجيبهم إلى ما يدعونك إليه فيجيبوا، فتحمل أوزارهم يوم القيامة، وإن كنت تحب الله فاصبر على ما أنت عليه فإنه ما بينك وبين الجنة إلا أن تُقْتَل، وإنك إن لم تُقتل تَمُتْ، وإن عِشْتَ عِشْتَ حميدًا، قال أحمد اسم> وكان كلامه مما قوَّى عزمي.
ولمَّا اقتربا من جيش الخليفة ونزلا بمرحلة دونه جاء خادم وهو يمسح دموعه بطرف ثوبه ويقول: يعز عَلَيَّ أن أقول لك يا أبا عبد الله اسم> المأمون اسم> قد سَلَّ سيفه، وهو يقسم بقرابته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لئن لم تُجبه إلى القول بخلق القرآن ليقتلنّك بسيفه، فجثى أحمد اسم> على ركبته، ورفع طرفه إلى السماء وقال: اللهمَّ فإن يكن القرآن كلامك غير مخلوق فاكفنا مئونته، فلما كان آخر الليل خرج الصريخ ينعي موت المأمون اسم> ولم تكد تنفرج حتى ولي الخلافة المعتصم اسم> والتف حوله غلاة المعتزلة وشحنوه بالباطل، وكان أشد على أهل السُّنّة من المأمون اسم> فرُدّ إلى بغداد اسم> في سفينة مع بعض الأسارى ومات ابن نوح اسم> في الطريق، وأودع أحمد اسم> السجن مدة ثمانية وعشرين شهرًا، قضاها والقيد في رجليه لم ينزع عنهما، فكان يصلي إمامًا بأهل السجن، والقيد في رجليه -رحمه الله تعالى- ولما تمت هذه المدة أُحْضِرَ أحمد اسم> أمام الخليفة ليُسأل ويُضرب ويُطلب إليه القول بالبدعة، فيرفض ويعذب، حتى ملّ سائلوه ومعذبوه.
وضجَّ من هول العذاب من حوله من السامعين والمتفرجين، والإمام صابر ثابت يقرع الحجة بالحجة، ويدفع ضجة الباطل بلجة الحق، فيضمحل الباطل ويعلو الحق، حتى كتب الله له النصر وفاز بلقب بطل المحنة وإمام الثبات والصبر.
وهكذا صبر أحمد اسم> وثبت على مبدأ الحق فلم يبدل ولم يغير فكان مثال الكمال في الصبر والثبات على المبدأ، فرحمه الله رحمة واسعة وخَلَّدَ ذِكْرَاه، وجعل الجنة مثواه.
ربّانيته:
إن ربانية أحمد اسم> وهي قوة صلته بربه -تعالى- ونسبته إليه، ولصوقه بجنابه -عز وجل- حتى ما كان يعرف إلا به -تعالى- فمبلغ القول فيها: إنها كانت ربانية قائمة على التوحيد الخالص، والعلم اليقين الكامل، والزهد إلا فيما عند الله، والفقر إلا إلى الله، ولتجلي هذه الربانية القوية نورد طرفًا من موجز كلامه وآخر من مظاهر كماله فنقول: لما حمل أحمد اسم> من دار الخلافة إلى دار إسحاق بن إبراهيم اسم> وهو صائم أتوه بسويق ليفطر من الضعف الذي أصابه فامتنع واستمر في صومه، وحين حضرت الصلاة صلى معهم فقيل له: صليت في دمك، فقال: صلى عمر اسم> وجرحه ينضب دمًا، ولما أقيم ليضرب بالسياط انقطعت تكة سراويله فخشي أن تنكشف عورته فحرك شفتيه بالدعاء، فعادت سراويله كما كانت، وما حرك به شفتيه هو قوله: يا غياث المستغيثين، يا إله العالمين، إن كنت تعلم أني قائم لك بحق فلا تهتك لي عورة.
وقيل له يومًا: ادع الله -تعالى- لنا، فقال: اللهم إنك تعلم أنك على أكثر مما نحب فاجعلنا على ما تحب دائمًا وسكت، فقيل له: زدنا، فقال: اللهمَّ إنا نسألك بالقدرة التي قلت للسماوات والأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا فقالتا أتينا طائعين، اللهم وفقنا لمرضاتك، اللهم إنا نعوذ بك من الفقر إلا إليك، ونعوذ بك من الذل إلا لك، اللهم لا تكثر لنا فنطغى، ولا تُقِلَّ علينا فنسيء، وهب لنا من رحمتك وسعة رزقك ما يكون بلاغًا لنا في دنيانا، وغنى من فضلك.
وقال صالح اسم> ولده: كان أبي لا يدع أحدًا يسقي له الماء ليتوضأ، فرمى بالدلو فخرج ملآن فقال: الحمد لله، فقلت له: يا أبت، ما الفائدة بذلك؟ فقال: يا بني، أما سمعت قول الله -تعالى- رسم> قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ قرآن> رسم> .
وعن مظاهر كماله نقول: لما انكشفت الغمة، وزالت المحنة، وولي أمر المسلمين المتوكِّل على الله اسم> وكان سلفيًّا يحب أهل السُّنّة والجماعة، بعث بصلة للإمام أحمد اسم> فلم يقبلها، فأصر الخليفة إلا أن يقبلها، وأصر أحمد اسم> على عدم قبولها، جعلها الخليفة في ولده وأهله، فقال أحمد اسم> لولده وأهله يلومهم: إنما بقي لنا أيام قلائل، وكأننا وقد نزل بنا الموت، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، فنخرج من الدنيا وبطوننا قد أخذت من مال هؤلاء!!!
فاحتجوا عليه بقول الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعمر اسم> رسم> ما جاءك من هذا المال وأنت غير سائل ولا مستشرف فخذه متن_ح> رسم> رواه البخاري اسم> حديث> وابن عمر اسم> وابن عباس اسم> قَبِلَا جوائز السلطان، فقال: وما هذا وذاك سواء، ولو أعلم أن هذا المال أخذ من حقه وليس بظلم ولا جور لم أبالِ.
ولمَّا علم المتوكل اسم> ببراءة أحمد اسم> مما نُسِبَ إليه حيث وَشَى به الواشون، فحُوصِرَ بيته ليلًا، وفتشه تفتيشًا دقيقًا عما يثبت ولاءَه للعلويين، وتواطؤه معهم، بعث إليه الخليفة مع أحد أصحابه بعشرة آلاف درهم، وقال: هو يقرئك السلام ويقول لك: استنفق هذه، فامتنع من قبولها، فقال الحاجب: يا أبا عبد الله اسم> إني أخشى من ردك إياها أن تقع وحشة بينك وبين الخليفة، والمصلحة لك قبولها، فوضعها عنده ثم ذهب، فلما كان من آخر الليل استدعى أحمد اسم> أهله وبني عمه وعياله، وقال: لم أنم هذه الليلة من هذا المال، فجلسوا وكتبوا أسماء جماعة من المحتاجين من أهل الحديث وغيرهم من أهل بغداد اسم> والبصرة اسم> ولما أصبحوا فرقوها كلها حتى الكيس الذي كانت به تصدَّقَ به، ولم يعطِ منها أهله وأولاده وعياله شيئًا وهم في غاية الجهد والفاقة والفقر، وهكذا تجلت ربانية أحمد اسم> وصدقه فيها فكان بذلك إمامًا وقدوة فيها وفي غيرها من سائر الكمالات النفسية.
وفاته:
مرض أحمد اسم> متى صح ذلك الجسم الذي أضناه الصيام، وأقعده القيام، مرض مرضه الذي توفي فيه أوائل شهر ربيع الأول من سنة إحدى وأربعين ومائتين، قال ابنه صالح اسم> دخلت على والدي يوم الأربعاء ثاني ربيع الأول وهو محموم، يتنفس الصعداء وهو ضعيف فقلت له: يا أبت ما كان غذاؤك قال: ماء الباقلاء، وأقبل الناس الأفاضل على عيادته، وتوافد الأكارم على بيته، فكتب -رحمه الله تعالى- وصيته، وكان يئن في مرضه، ولما بلغه عن طاوس اسم> كراهة الأنين تركه، حتى كانت ليلة وفاته أنَّ، وهي ليلة الجمعة الثاني عشر من ربيع الأول، ومن غريب ما حدث له في تلك الليلة أنه سمع وهو يقول: لا، بعد، لا، بعد، فقال له ابنه صالح اسم> ما هذه اللفظة التي تلهج بها؟ فقال: إن الشيطان واقف بزاوية البيت وهو عاضٌّ على إصبعه ويقول: فُتَّنِي يا أحمد اسم> فأقول: لا، بعد، لا، بعد، ولما دنا الأجل قال لأهله: وضئوني وخللوا أصابعي. فوضئوه، ولما فرغوا من وضوئه فاضت روحه وهو يذكر الله -تعالى-.
فإلى رحمة الله يا أسوة الصالحين وقدوة الزهاد والورعين.
والسلام عليك في الآخرين والأولين.
وصيته:
ولما قرُبت وفاته أمر ابنه أن يحضر وصيّته التي سبق أن كتبها ويقرأها عليه، وهذا نصها:
بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما أوصى به أحمد بن حنبل اسم> أوصى بأنه يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا اسم> عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون.. وأوصى من أطاعه من أهله وقرابته أن يعبدوا الله في العابدين، ويحمدوه في الحامدين. وأن ينصحوا لجماعة المسلمين.
وأوصي أني قد رضيت بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد اسم> -صلى الله عليه وسلم- نبيًّا، وأوصي أن ( لعبد الله بن محمد اسم> المعروف ببوران اسم> ) عليَّ نحوًا من خمسين دينارًا، وهو مصدَّق فيما يقول، فيقضى ما له عليَّ من غلَّة الدار إن شاء الله فإذا استوفى أعطي ولد صالح اسم> وعبد الله اسم> ابنا أحمد بن حنبل اسم> كل ذكر وأنثى عشرة دراهم بعد وفاء مال أبي محمد اسم> شهد أبو يوسف اسم> وصالح اسم> وعبد الله اسم> أبناء أحمد بن محمد بن حنبل اسم> .
ولما توفي أطبقت بغداد اسم> كلها لشهود جنازته التي جهزت بعد الظهر بما فيهم الحاكم والعلماء وسلالة الهاشميين والصحابة والتابعين.. فقيل إن من شهد الصلاة وتبع الجنازة يقدر بألفي ألف وخمسمائة ألف.. وقيل: حضر مع ذلك ستون ألف امرأة وأسلم يوم وفاته عشرون ألفًا من ديانات مختلفة. وفتحت البيوت كلها للوضوء والانتظار، ودُفن في مقبرة (باب حرب ببغداد اسم> )، وما زال قبره معروفًا إلى أوائل القرن التاسع الهجري. فرحمه الله ورضي عنه وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.
رثاء الإمام:
نكتفي بذكر قصيدة واحدة من مراثيه قالها جعفر السراج اسم>
سقـى الله قبـرًا حل فيـه ابن حنبل اسم> | مـن الغيث وسميًّا على أثره ولي |
على أن دمعـي فيـه روى عظـامه | إذا فـاض ما لم يبل منه وما بلي |
فلله رب النــاس مــذهب أحمـد اسم> | فإن عليــه ما حييت معــولي |
دعـوه إلى خلـق القرآن كمـا دعوا | ســواه, فلم يتبع ولــم يتأولِ |
ولا رده ضــرب السيــاط وسجنه | عن السُّنّة الغراء والمذهب الجلي |
ولمــا يزدهم - والسيـاط تنـوشه | فَشُلـَّت يميــن الضارب المتقتلِ |
على قوله: القرآن -وليشهد الورى- | كلامـك يا رب الـورى كيفما تلي |
فمــن مبلغ أصحــابه أننـي به | أفــاخر أهل العلم في كل محفل |
وألقــى به الزهاد في كل مطلــق | مــن الخوف دنيـاه طلاق التبتل |
منــاقبه إن لم تكـن عـالمًا بهـا | فكشف طروس القوم عنهن واسأل |
لقـد عاش في الدنيا حميـدًا موفقًا | وصـار إلى الآخرى إلى خير منزلِ |
وإنــي لراج أن ينـور الله قلب من | إذا سـألوا عـن أصله قال: حنبلي |
مسألة>