اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. لا بأس أن يكتب المسلم اسمه في طرة المصحف (جانبه) مخافة اشتباه مصحفه بغيره، فقد لا يناسبه إلا مصحفه المخصص له، ولا بأس أن يكتب بعض الفوائد على الهوامش كتفسير كلمة أو سبب نزول أو ما أشبه ذلك. يجوز أن يعلم القبر بعلامات يعرف بها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم لما دفن عثمان بن مظعون جعل عند قبره حجرا وقال: "أعرف به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي". فيجوز أن يجعل علامة كحجر أو لبنة أو خشبة أو حديدة أو نحو ذلك، ليميز بها القبر عن غيره حتى يزوره ويعرفه.أما أن يكتب عليه فلا يجوز؛ لأنه قد نهي أن يكتب على القبور حتى ولو اسمه، وكذلك نهي أن يرفع رفعا زائدا عن غيره.
شرح كتاب العظمة المجموعة الثالثة
69850 مشاهدة
الريح والسحاب بين الرحمة والعذاب

...............................................................................


السلام عليكم ورحمة الله.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.
قال الله تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أي: تفكروا في السماوات وتفكروا فيما في الأرض حتى تعتبروا وتروا الآيات العظيمة التي تدل على عظمة من أوجدها؛ دائما يذكر الله جنس الآيات، ويبين أنها آيات عظيمة مثل قول الله تعالى: ومن آياته يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا هكذا أخبر بأن هذه من آياته التي تدل على عظمته. يريكم البرق. يعني أنه يظهر السحب، ثم ينشأ منها هذا البرق وهذا الرعد، وفيه خوف وفيه طمع. فالخوف أنه قد يكون عذابا، والطمع أنه يكون رحمة.
ولهذا ذكرت عائشة رضي الله عنها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان إذا رأى السحاب اهتم وأقبل وأدبر ودخل وخرج، فإذا تجلى السحاب سُري عنه وفرح، فتقول له عائشة: إن الناس إذا رأوا السحاب فرحوا وسروا؛ لأنه يكون سببا للرحمة وأنت إذا رأيت هذه السحاب تحزن وتهتم وتدخل وتخرج ..... إذا رآه يخاف أن يكون عذابا.
وذلك لأن الله تعالى جعل الريح عذابا, وقد جعل أيضا السحاب عذابا, فجعل الريح عذابا كقوله تعالى : وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ يعني: أن هذه الريح سلطت على عاد, فكانت عذابا بحيث إنها أتت على منازلهم وعلى أماكنهم, فكل شيء أتت عليه -يعني مما يقبل الإفساد- أفسدته؛ وذلك لأن الله تعالى سلط عليهم -لما عصوا رسوله- الجدب والقحط الشديد, فبقوا مدة لم يأتهم السحاب ولم تأتهم الأمطار, تضرروا بذلك, فأرسلوا اثنين يستسقيان عند البيت الحرام بمكة وهذان انشغلا في مكة حيث نزلا عند أحد أقاربهما, وأخذا يستمعان الغناء ويأكلان من النعم, وتركا الاستسقاء لقومهما, فعلم صاحب البيت أن هذا ضرر على قومهم, فعند ذلك أنشأ قصيدة, وأمر الْأَمَتَيْنِ أن تغنيا بها, حتى ينتبه هؤلاء, وكان أحدهما اسمه قيـل مطلع الأبيات قوله:
ألا يـا قيـل ويحـك قـم فـهينم
لعـل اللـه يسـقينا غمـامـا
فتسـقى أرض عـاد إن عــادا
قـد امسـوا لا يبينون الكلامـا
من العطش الشديد فليس نرجـو
بـه الشيخ الكبـير ولا الغلامـا
الأبيات ذكرها ابن كثير في تفسير قصة هود في سورة الأعراف وكذا ابن جرير وغيرهم، فلما سمعا ذلك وعلما أن قومهم قد أصابهم العطش الشديد, الذي صار خطرا عليهم, وأن كبار الأسنان قد هلكوا من العطش الشديد, وكذا صغار الأسنان الذين هم الأطفال ونحوهم, فلم يبق إلا الأقوياء, عند ذلك ذهبا واستسقيا, ثم عرض على قوم عاد، عرض عليهم وقيل لهم: اختاروا سحابة حمراء, أو سحابة بيضاء, أو سوداء. اختاروا السحابة السوداء. وقالوا: إنها أكثر ماءً, فقيل أو سمعوا قائلا يقول: اخترت رماد رمددا, لا تبقي من عاد أحدا. أنشئت السحابة, ولما رأوها قال الله تعالى : فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ لما رأوها قالوا: هذه السحابة التي فيها المطر، المطر الغزير, المطر الكثير الذي يسقينا ويحيي بلادنا, فكان فيها هذه الريح, وكانوا قد استعجلوا العذاب فقال الله: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ لما سألوا أن تكون لهم السحابة السوداء , بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ قال الله تعالى في قصتهم, لما ذكر عادا كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فكانت هذه عاقبتهم, فلذلك الريح والسحب تكون عذابا.
وهذا هو السبب الذي كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يخاف من اشتداد الريح, ويخاف أيضا من قوة المطر أن يكون غرقا. الله تعالى إذا رحم عباده فإنه ينزل المطر بِقَدَر, أي بمقدار, كما قال تعالى : وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ أخبر بأنه جعله بقدر, أي مقدرا ليس قليلا فلا يكفي ولا يحصل به النبات, وليس كثيرا فيحصل به الغرق, بل جعله متوسطا بقدر الحاجة, كذلك قول الله تعالى: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ أي: أنه جعل في هذه الأرض خزائن تخزن الماء حتى يحتاج إليه, فتمتلئ هذه المستودعات, ثم بعد ذلك يستخرجونه ليسقوا منه أشجارهم وبهائمهم وأنفسهم, وذلك فضل الله تعالى ومِنَّتُهُ.
هذا من آيات الله تعالى: إرسال هذه الرياح, ثم إنشاء هذه السحب, ولذلك قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ الرياح: هي هذه الأعاصير, هذه من آيات الله, لو اجتمع الخلق كلهم على أن يرسلوها إذا سكنت ما قدروا. الله هو الذي يرسلها إذا شاء, ولو هاجت الرياح واشتدت وحاول الخلق كلهم أن يسكنوها ما قدروا, الله هو الذي يرسلها, ولا يُدْرَى من أين تأتي, يرسل الله تعالى هذه الرياح إذا شاء, فلا يدري أحد أين مسكنها، أين مستودعها الذي تأتي منه؟ تارة تكون ريحا طيبة, وتارة تكون ريحا شديدة إذا اشتدت, فإنها تقلع الأشجار ولو كانت راسخة, تقلع النخيل, وتقلع الأشجار الكبيرة, وتهدم البيوت.
وذكر في هذه الأيام أنه أرسلت ريح على إحدى القرى داخل المملكة وأنها قلعت مواسير الكهرباء, كثيرٌ منها انقلعت, وأنه حصل بها ضرر. لا شك أن هذا دليل على أنها ريح شديدة إذا أرسلها الله تعالى أرسلها كما يشاء. ولهذا ورد في الحديث النهي عن سب الريح , وذكر أن سبها سب لله تعالى, لأنه الذي يصرفها لا تسبوا الريح, فإنها مأمورة, وإذا هاجت الرياح فقولوا: اللهم إنا نسألك خيرها وخير ما فيها, وخير ما أرسلت به, ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به ونقول أيضا: اللهم اجعلها رياحا, ولا تجعلها ريحا, اجعلها رياحا لأن الرياح تكون رحمة, كقوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ أي تبشر بالخصب, وتبشر بالغيث, وفي سورة الأعراف وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي: بشارة بين يدي أي قبل رحمته , التي هي نزول المطر, وبعدما ينزل يقول الله: فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وكذلك قال تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ أي تلقح السحاب, وهذه الرياح تلقح السحاب وتثيره, يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا .
يرسل الرياح فتثير بأمر الله هذا السحاب, فينشئ الله هذا السحاب كما يشاء, ثم يسوقه إلى حيث شاء, يقول تعالى: فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا سقناه: الله تعالى هو الذي يسيره, وقد تكون الريح أيضا تدفعه بأمر الله تعالى, فتسيره إلى حيث يشاء الله. لا شك أن هذا من آياته, وأما قوله: ولا تجعلها ريحا فإن الريح بالإفراد ذُكِرَ أنها عذاب, ذكرت عذابا كما في قصة عاد التي ذكرنا أدلتها فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ريحا, وكذلك قوله: وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ فجعلها مفردة, رِيحًا صَرْصَرًا أي: لها صرصرة, ولها شدة, سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فهذه ذكرت بالإفراد.
وكذلك الريح التي أرسلها الله على الأحزاب الذين حاصروا النبي -صلى الله عليه وسلم- سنة خمس. المشركون من أهل مكة ومن معهم حاصروا المسلمين, فدعا عليهم النبي-صلى الله عليه وسلم- فأرسل الله عليهم ريحا, قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ يعني: جنود كثيرة فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا أي: ما جاءتكم ولا أضرتكم هذه الريح, وإنما تسلطت عليهم فقلعت خيامهم, وأكفأت قدورهم, وأطفأت نيرانهم , وأقلقتهم, فلم يجدوا بُدًّا من أن يرتحلوا ويرجعوا. هذا نصر من الله, فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وورد أن النبي-صلى الله عليه وسلم- قال: نُصِرْت بالصبا, وأُهْلِكَتْ عاد بالدَّبُور الصبا: الريح التي تأتي من الشرق, والدبور: التي تأتي من الغرب. أي: أن الله تعالى نصر نبيه-صلى الله عليه وسلم- بهذه الريح التي جاءت من الصبا, فتسلطت على الأحزاب حتى تفرقوا, وأهلكت عاد بالريح التي تأتي من الغرب, التي هي الدبور.
فلا شك أن هذا دليل على كمال تصرف الخالق سبحانه وتعالى, وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ يحتج الله تعالى بهذا على أنه هو الذي يحيي الموتى حيث أنه هو الذي يحيي الموتى حيث إنه أرسل الرياح, وأثارت هذا السحاب -سحابا ثقالا- مثقلا بالماء, لا ندري كيف تحمل الماء؟ من أين حمل هذا الماء؟ ومن أين جاءه؟ الله هو العالم بذلك, نشاهد أن هذه الطائرات تخرق هذا الجو, وتكون فوق السحاب, والسحاب تحتها يمطر فيكون له رعد وله برق, وأهل الطائرة لا يحسون بشيء من ذلك, ولا يجدون هذه الرطوبة التي امتلأ بها هذا السحاب. إذا خرقت هذه السحاب لا تحس برطوبة ولا بماء, مع غزارة الماء الذي تحمله تلك السحب ولا تحس أيضا بذلك الرعد وذلك البرق, فيدل على أنه من آيات الله تعالى.
قال بعضهم: إن البرق من آثار احتكاك السحاب بعضه ببعض, وإذا احتكت سحابة بأخرى اشتعل منها هذا البرق, وظهر منها هذا الصوت الذي هو هذا الرعد، ويقول بعضهم: إن هذا الرعد هو من آثار الريح الشديدة التي تزجر السحاب, فيكون من آثارها هذا الصوت الشديد الذي يسمع في وسط السحب. ومن المعلوم أن الطائرة تخرق السحب المتكاثفة, ومع خرقها لها ومع سرعتها لا يحصل شيء من هذا الاصطدام, لا تصطدم بذلك الرعد المتكاثف, ولا يحصل شيء من الاحتكاك الذي يسمع له صوت رعد ولا برق, وإنما يجدون هذا السحب غماما كهيئة الغبار, تخرقه الطائرة وتتجاوزه, ولا يكون لذلك تصويت ولا غيره, فلا شك أن الله تعالى هو الذي حَمَّلَهُ هذا الماء, جعله يحمل هذا الماء, فتثير سحابا.
ذكر في الآية الأخرى أنه سَحَابًا ثِقَالًا وأنه جعله سببا في حمل الماء, ثم ننظر أيضا في أنه تعالى يسيره كيف يشاء, فيشاهد أنه يسير أحيانا في جهة الشرق متوجها, وأحيانا في جهة الغرب, وأحيانا يشاهد أنه يذهب يمينا شمالا أو جنوبا. ويشاهد أيضا أن السحب تكون في جهة الشمال بعيدا عن بعض القرى, فيأمرها الله تعالى وتتوجه إلى مكان أراد الله نزول المطر عليه, فتُنْزِل ما بها من السحاب أي: بأمر الله تعالى. وهذا معنى قوله : فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ .
الله تعالى هو الذي يسوقه, كما أخبر: ( سقناه ) أي بأمرنا, ليس ذلك بطبيعته ولا بالريح, بل بأمر الله تعالى يسوقه حيث يشاء, فينزل المطر كما شاء, ويكون بِقَدَرٍ. فلو اجتمع الخلق على أن ينشئوا سحابة ما قدروا, أو على أن ينزلوا مطرا ما قدروا. وقد ذكر في الأحاديث أن الله تعالى يستجيب دعوة الصالحين, فيغيثهم. في الحديث المشهور عن أنس في الصحيحين لما استغاث النبي-صلى الله عليه وسلم- وهو على المنبر , يقول أنس: وما بالسماء قزعة, فنشأت سحابة عند سلع الجبل الصغير الغربي الشمالي عن المسجد الحرام مثل الترس,- الترس: هو المجن الذي يلبس على الرأس-. فلما توسطت السماء امتدت, فنزل منها المطر, واستمر المطر سبتا -يعني: أسبوعا-. نشأت مثل الترس, ثم مع ذلك كست السماء بأمر الله تعالى, إلى أن حصل ما حصل, ونزل المطر, ولما دعا النبي-صلى الله عليه وسلم- بقوله: اللهم حوالينا ولا علينا. تقطع السحب, وذهب يمنة ويسرة بأمر الله تعالى, فصار حول المدينة .
هذه أيضا من كرامات ومعجزات النبي -صلى الله عليه وسلم-. وهذا أيضا واقع أن كثيرا من الصالحين إذا استسقوا وطلبوا المطر أنزل الله عليهم المطر بسهولة. في غزوة تبوك قحط الصحابة وهم أربعون ألفا, وليس حولهم ماء, فاستسقى النبي-صلى الله عليه وسلم- فأنشأ الله سحابة بقدرهم, فأنزل الله المطر حتى استنقعت الأرض, فشربوا, وسقوا إبلهم, وملئوا قربهم, نظروا وإذا تلك السحابة لم تتجاوز الركب, جاءت على قدرهم, لم تمتد إلى غيرهم من تلك البلاد. هكذا جاءت! والقصص في ذلك كثيرة.
نعرف بذلك أن الله تعالى هو الذي يرسل السحب إذا شاء, وأن هذا السحاب ينشأ بأمر الله إذا قال له كن إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فيرسل الرياح وتثير الرياح سحابا, ثم يسيره ويصرفه كيف يشاء, كما قال الله تعالى : وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا .
روي عن ابن عباس أنه قال: ليس زمان أكثر مطرا من زمان, ولكن يصرفه الله كيف يشاء, يصرفه كما يشاء بأمره سبحانه وتعالى, فيكون ذلك من آياته أنه تارة يكون شمالا, وتارة يكون شرقا, وتارة يكون غربا, فتكون كثير من البلاد دائما ينزل عليها المطر بأمر الله, ثم يتوقف عنها سنوات, ثم يعود إليها.
لقد أخبرنا بعض الشيوخ كبار الأسنان الذين أدركوا أول القرن الماضي يعني من سنة ثلاثمائة إلى سنة ثلاثمائة وخمس وعشرين: أن المطر والسحب لا تنقطع عنهم, بل مستمرة على هذه البلاد, وأنهم لذلك كثرت أموالهم من المواشي من بهيمة الأنعام -الإبل والبقر والغنم- وتوالدت الصيود -الظباء والوعول- حتى كانت كأنها أغنام, إذا دخلوا شعبا من الشعاب وإذا هو ممتلئ من هذه الصيود, يأخذون منها ما يريدون قدر حاجتهم, ويتركون البقية من كثرة الخير, وأنهم لما أغدقت بلادهم أصبح الماء قريبا.
لا شك أن ذلك كله من آثار بركات الله تعالى, وغيثه لعباده.
في هذه الأزمنة يدعي كثير من هؤلاء المتمعلمين أن هذا المطر إنما هو من بخار الأرض, وأن كل ما صب على الأرض فإنه يتبخر ويكون ماء ينزل بعد ذلك, ولو كان كذلك لكان نزوله في شدة الحر أكثر في الصيف, وذلك لشدة حرارة الشمس التي من آثارها يتبخر الماء, سواء من البحر أو من الأنهار التي تجري أو مما يصب على الأرض من المياه أو ما أشبه ذلك. فدل على أن هذا لا صحة له، كونهم يدعون أنه من بخار الأرض, بل هو من خلق الله تعالى, فالله قادر على أن ينشئ هذا الماء في جو السماء.
قد ذكر الله أن العرش كان على الماء, قال تعالى: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ يعني: قبل خلق السماوات والأرض, ذكر أن عرشه على الماء. وسئل ابن عباس على أي شيء الماء؟ فقال: على متن الريح. يعني أن الله تعالى أرسل الريح, أو خلق الريح فاستمسك بها هذا الماء. فلا يغتر بأقوال الذين يعتقدون أن هذه السحب أنها بسبب الأفلاك, أو أن هذا المطر مما يتبخر من الأرض, أو من البحار, أو ما أشبه ذلك, فإن هم إلا يظنون.