إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) logo       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم.
shape
شرح كتاب العظمة المجموعة الثالثة
101889 مشاهدة print word pdf
line-top
أثر الريح في نشأة السحاب

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال رحمه الله تعالى: ذكر السحاب وصفته.
قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد بن إدريس وإبراهيم بن محمد بن الحسن قالا: حدثنا أبو سعيد الأشج قال: حدثنا عقبة عن إسرائيل عن جابر عن عطاء رحمه الله تعالى قال: السحاب يخرج من الأرض ثم تلا: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا .
قال: حدثنا قاسم بن زكريا المطرز قال: حدثنا محمد بن منصور الطوسي قال: حدثنا أسيد الجمال قال: حدثنا يزيد بن مسلم الكناني عن حبيب بن أبي ثابت عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ قال: إن الله تبارك وتعالى يبعث الريح تحمل الماء من السماء، تمري به السحاب تدر كما تدر اللقحة ولو كانت الريح هي التي تلقح لقال الله عز وجل: وأرسلنا الرياح ملقحات.
قال: حدثنا قاسم بن زكريا قال: حدثنا محمد بن منصور قال: حدثنا أسيد قال: حدثنا يزيد بن مسلم عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: قال: القاسم سألت محمد بن منصور فقلت: عن النبي -صلى الله عليه وسلم- مثله؟ قال: لا أدري، وقيل لي: إنه في كتابه صحيح.
قال: حدثنا العباس بن حمدان قال: حدثنا محمد بن معمر قال: حدثنا سعيد عن قتادة رحمه الله تعالى قال: ذكر لنا أن رجلا سأل عليا رضي الله عنه عن فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا قال: السحاب.
قال: حدثنا العباس قال: حدثنا محمد بن معمر قال: حدثنا روح قال: حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد رحمه الله تعالى فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا قال: السحاب تحمل المطر.
قال: حدثنا الوليد بن أبان قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا يحيى بن صالح الوحاظي قال: حدثنا سليمان بن بلال قال: حدثنا أسامة بن زيد عن معاذ بن عبد الله بن خبيب الجهني قال: رأيت ابن عباس رضي الله عنهما مر على بغلة وأنا في بني سلمة فمر به تبيع ابن امرأة كعب فسلم على ابن عباس فقال له ابن عباس هل سمعت كعبا يقول في السحاب شيئا؟ قال: نعم، كان يقول: السحاب غربال المطر ولولا السحاب حين ينزل الماء من السماء لأفسد ما يقع عليه من الأرض. قال: سمعت كعبا يقول في الأرض: تنبت العام نباتا وتنبت عاما قابلا غيره؟ قال: نعم، سمعته يقول: إن البذر ينزل من السماء.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: وأنا قد سمعت ذلك من كعب .
قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا أبو طاهر سهل بن الفرخان قال: حدثنا الفرج بن عبد الملك بن ميناس قال: حدثتني أمي أم عبد الله بنت خالد بن معدان عن أبيها خالد بن معدان أنه كان يقول: إن في الجنة شجرة تثمر السحاب، فالسوداء منها الثمرة التي قد نضجت التي تحمل المطر، والبيضاء الثمرة التي لم تنضج لا تحمل المطر.
قال: حدثنا الوليد قال: حدثنا محمد بن عمارة قال: حدثنا إسحاق بن سليمان قال: حدثنا أبو سنان عن حبيب بن أبي ثابت عن عبيد بن عمير رحمه الله تعالى قال : يبعث الله عز وجل المبشرة فتقم الأرض قما، ثم يبعث الله عز وجل المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث الله عز وجل المؤلفة فتؤلفه، ثم يبعث الله عز وجل اللواقح فتلقح السحاب، ثم قرأ عبيد: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ قال: الريح لواقح.
قال: حدثنا أحمد بن الحسن بن عبد الجبار قال: حدثنا يحيى بن معين قال: حدثنا عباد بن العوام قال: حدثني موسى بن محمد بن الحارث التيمي عن أبيه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في يوم دجن: كيف ترون بواسقها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد تراكمها. قال: كيف ترون قواعدها؟ قالوا: ما أحسنها وأشد تمكنها. قال: كيف ترون جونها؟ قالوا: ما أحسنه وأشد سواده. قال: كيف ترون رحاها استدارت؟ قالوا: نعم ما أحسنها وأشد استدارتها. قال: ما أحسن برقها أخفوا أم وميضا أم يشق شقا؟ قال: بل يشق شقا. قال: الحيا. فقال أعرابي: يا رسول الله ما أفصحك! -أو ما رأينا من هو أعرب منك!- قال: حق لي وإنما نزل القرآن على لساني بلسان عربي مبين .
قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن قال: حدثنا إسحاق بن سنان قال: حدثنا عبيد الله بن إسماعيل عن عباد بن عباد عن إبراهيم بن محمد بن طلحة التيمي عن أبيه عن جده رضي الله عنه قال: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- جالسا في أصحابه فذكر الحديث، قال عباد: الوميض: شبه الطود السريع، والخفو: الذي يكون بين السحابين، والذي يشق شقا: يعترض في الأفق.
قال: حدثنا أبو بكر الفريابي قال: حدثنا أبو الأصبغ عبد العزيز بن يحيى الحراني قال: حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق عن محمد بن يحيى بن حبان عن الأعرج عن حميد بن عبد الرحمن عن الغفاري قال: وحدثنيه عبد الواحد بن أبي عون عن سعيد بن إبراهيم قال: سمعت الغفاري قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ينشئ الله عز وجل السحاب فتنطق أحسن النطق وتضحك أحسن الضحك .
قال: حدثنا أحمد بن عمر قال: حدثنا عبد الله بن محمد عن سليمان بن داود الهاشمي قال: سألنا إبراهيم بن سعد عن هذا فقال: المنطق: الرعد، والضحك: البرق.
قال عبد الله بن محمد بن زكريا قال: حدثنا سلمة قال: حدثنا أبو المغيرة قال صفوان: حدثنا أبو المثنى رحمه الله تعالى قال: إن الله عز وجل اطلع إلى أرضه بعد الطوفان، وقد بث فيها خلقه حتى طلع إلى دقاق الدواب التي كانت تحت الحجارة تسبح باسمه، ووكل الأرض بأرزاق خلقه فقالت له الأرض: أروِني من الماء ولا تنزله علي منهمرا كما نزلته علي يوم الطوفان وشققني وجددني. قال: سأجعل لك السحاب غربالا. قالت: رب فإني أخشى الرعد حين أسمع صوته، وأظن أنها الساعة وأن أمرك من أمر الساعة قريب. قال: فإني سأجعل لك أمارة بين يدي الرعد؛ إذا رأيت الرعد فشددي أركانك للرعد. قالت: فإنها لتشد حين ترى البرق كما يخاف الرجل عن الشيء يهابه.
قال: حدثنا أحمد بن عمر قال: حدثنا عبد الله بن عبيد قال: حدثنا أبو بكر بن جعفر قال: حدثنا كثير بن هشام قال: حدثني عيسى بن إبراهيم عن عبد الرحمن بن جابر عن عمير بن هانئ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: السحاب الأسود فيه المطر والأبيض فيه الندى وهو الذي ينضج الثمار.
قال: حدثنا أحمد بن عمر قال: حدثنا عبد الله بن عبيد قال: حدثنا محمد بن يحيى الأزدي قال: حدثنا محمد بن عمر قال: حدثنا عبد الحكيم بن عبد الله بن أبي فروة قال: سمعت عوف بن الحارث يقول: سمعت عائشة رضي الله عنها تقول: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا نشأت السماء بحرية ثم تشاءمت فتلك عام غديقة. يعني: مطرا كثيرا .

قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن الحسن قال: حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا ابن وهب قال: أخبرني عبد العزيز بن محمد عن عمرو بن أبي عمرو عن الثقة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: هذا سحاب ينشئ الله عز وجل فينزل الله منه الماء، فما من منطق أحسن من منطقه ولا من ضحك أحسن من ضحكه وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منطقه الرعد وضحكه البرق منطق السماء وضحكه فيها .
قال عمرو بن أبي عمرو قال: حدثنا ابن رستة قال: حدثنا عثمان بن سعيد الأنماطي قال: حدثنا عبد الرحمن الدشتكي قال: حدثنا أبو جعفر الرازي عن قتادة عن الحسن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا جلوسا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فمرت سحابة فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أتدرون ما هذه؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: هذه العنانة. هذه روايا الأرض يسوقها الله عز وجل إلى أهل بلد لا يعبدونه .
قال: حدثنا العباس بن حمدان وإبراهيم بن متويه قالا: حدثنا أبو سعيد قال: حدثني عقبة عن إسرائيل عن جابر عن عطاء رحمه الله تعالى قال: السحاب يخرج من الأرض ثم تلا: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا .
قال: حدثنا محمد بن زكريا حدثنا أبو حذيفة عن سفيان رحمه الله تعالى في قوله: وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ قال: الذي فيه المطر.
قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عمران قال: حدثنا ابن أبي عمر قال: حدثنا سفيان في قوله تعالى: كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا قال: كانت السماء لا تمطر والأرض لا تنبت، ففتقت هذه بالمطر وهذه بالنبات.
وقال آخرون: كانتا رتقا إحداهما فوق الأخرى.


من آيات الله تعالى أن يرسل الرياح، وينشئ السحاب، وينزل به المطر، وينبت به النبات، وكلها من آيات الله سبحانه التي يذكر بها عباده. فالرياح من خلق الله تعالى يرسلها تارة للرحمة وتارة للعذاب؛ ولهذا ورد النهي عن سب الريح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: لا تسبوا الريح فإنها مأمورة ولكن قولوا: اللهم إنا نسألك من خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به، ونعوذ بك من شرها وشر ما فيها وشر ما أرسلت به، اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا. كثيرا ما يذكر الله تعالى الرياح بالجمع وتكون هي الرياح التي تنشئ أو ينشئ الله بها السحب.
مثل قول الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ أي: تبشر بالرحمة. ومثل قوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي: بشارة، وقرأها بعض القراء: نشرا بين يدي رحمته. أي أنها تنشر السحاب فينتشر به، ومن ذلك أو دليل ذلك قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً يعني: بواسطة هذه الرياح فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فإرسال الرياح تارة يكون رحمة وتارة يكون عذابا.
ورد أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور. الصبا التي تأتي من المشرق، والدبور التي تأتي من المغرب؛ وذلك لأن الله تعالى نصر نبيه -صلى الله عليه وسلم- بالريح التي جاءت من المشرق في قوله تعالى: إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا أرسل الله على الأحزاب ريحا تقلب القدور وتطفئ النيران، وتقلع الخيام فلم يستقر لهم قرار فرحلوا، فكان ذلك نصرا من الله تعالى لنبيه -صلى الله عليه وسلم- وكذلك أهلك بها عادا في قوله تعالى: إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ وفي قوله تعالى: فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ وفي آية أخرى: فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ .
فهذه من آثار هذه الريح أحيانا تكون قوية تقلع الأشجار وتقلع الخيام وتقلع أو تهلك ما أتت عليه كما في ريح قوم عاد في قول الله تعالى: تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا وتارة تكون رحمة، وهي التي ينشئ الله تعالى بها هذه السحب وفيها منافع عظيمة؛ في هذه الرياح منافع كثيرة يقول بعض العلماء: لو سكنت الريح ثلاثة أيام متتابعة لأنتن كل ما على وجه الأرض. يعني: خاست الأرض وخاس ما عليها، وأصبحت منتنة لا يقر أحد عليها. ينتن كل ما عليها من الأطعمة ومن اللحوم ومن الثمار، وما أشبه ذلك؛ ولكن هذه الريح أو هذه الرياح تصرف روائحها وتزيلها وتبردها حتى لا يسرع إليها الفساد. وكذلك أيضا فيها أنها تثير السحب، ينشئ الله تعالى بها هذه السحب في قول الله تعالى: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ قيل: معناه أنها تلقح السحب حتى تمتلئ السحب ماء على ما يشاؤه الله تعالى، ثم ينزل به هذا المطر الذي يروي به الأرض، وتنبت النبات ويكون ذلك رزقا للعباد.
والأدلة على ذلك كثيرة. الله تعالى هو الذي ينزل هذا الماء إلى هذه الأرض، ولو شاء لحبسه عنهم فلم يستطيعوا أن يعيشوا على الأرض. يقول الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ إذا غارت المياه من أين يأتي هذا الماء؟ يأتي به الله وحده.
فإذا عرفنا أن هذا خلق الله وتدبيره نعرف بذلك كمال قدرته، ونعرف أيضا نعمه على عباده، وأن ذلك من تمام تصرفه. أحيانا يغدق المياه على بعض البلاد حتى تغرق أو يغرق كثير من مواضعها كما حصل لقوم نوح لما أغرقهم الله. قال الله تعالى: وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ أمر الله السماء فأمطرت بماء منهمر أي: يصب صبا بليغا، ونبعت الأرض وتفجرت عيونا، فارتفع الماء حتى ارتفع على أعلى الجبال. الذين صعدوا في أعلى الجبال مع ذلك ما نجوا.
ذكر في حديث: لو كان الله راحما أحدا منهم لرحم أم ذلك الصبي أم صبي تحبه لما جاء المطر ونبع على الأرض صعدت جبلا رفيعا، وما زال الماء يرتفع حتى وصل إلى قمة الجبل ولما وصل إلى أعلى الجبل وقفت وحملت طفلها، ثم وصل الماء إليه فحملته على كتفها فوصل الماء إلى رأسها فحملته ورفعته بيديها؛ نسيت نفسها وحملت ولدها ورفعته بيديها، ترجو أنه ينجو ولكن الله تعالى قدر أنه يهلك كل من كان على وجه الأرض. آية من آيات الله أنه أمر السماء فأمطرت، وأمر الأرض فتفجرت عيونا. لا شك أن هذا من آيات الله تعالى.
كذلك أيضا نشاهد أن كثيرا من البلاد تفيض المياه عندهم بما يسمى بالفيضانات، ثم تصل إلى مساكنهم وتدخل المساكن، وتغرق الكثير مما فيها وتهلك أو تتلف كثيرا من الأمتعة أليس ذلك بقدرة الله تعالى؟ وكثير من البلاد يسلط الله عليهم القحط فيتأخر عنهم المطر سنين متطاولة حتى تنشف وتجف الأرض، وتهلك الدواب والمواشي كما وجد الآن في دولة الحبشة وغيرها من الدول، سنوات يتابع الله عليها المطر، ويرتفع الماء حتى يكون على وجه الأرض وتجري منه العيون، وأحيانا تجف الأرض ولا يبقى فيها نبات، ويقل نزول المطر إلى أن لا يبقى فيها نبات. لا شك أن هذه آيات من آيات الله تعالى.
فالذين يدعون أن هذا أمر طبيعي، وأن هذه طبيعة هذه البلاد. طبيعة هذه الأرض لا ينزل عليها المطر، وطبيعة هذه الأرض ينزل عليها المطر.
يـرى الطبيعـة في الأشيا مؤثـرة
أين الطبيعـة يا مخذول إذ وُجـدوا
فلو كان كذلك لكان الأمر مستمرا لا يتغير، ولكنا نراه يتغير نقرأ قول الله تعالى: وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا صرفناه بينهم يقول ابن عباس رضي الله عنه: ليس سَنة أكثر مطرا من سنة، ولكن الله يصرفه؛ فيرسل إلى بلاد في بعض السنوات حتى يشتكوا من كثرة المطر، ويرسل إلى بلاد أخرى في السنة بعدها، ويصرفه عن بعض البلاد حتى تجف وتغور مياهها.
وكل ذلك ليعتبروا ليعرفوا ما هم فيه، ويعرفوا كمال قدرة الله وكمال حكمته وأنه الذي يملكهم، وأنه الذي يتصرف فيهم كما يشاء. لا شك أن هذا شيء مشاهد. نتذكر ويتذكر آباؤنا قبل مائة سنة أو مائة وعشرين سنة أن بلاد نجد كانت مياها أرضها بحيث أنهم إذا أرادوا غرس النخلة حفروا لها شبرا أو ذراعا لحقوا بالماء فيأتون بتراب من الأرض اليابسة ويكبونه حولها حتى تستمسك، ثم مع ذلك تعيش ولا تحتاج إلى سقي وتثمر وهي كذلك، وأن الأنهار أو السيول ومجاري السيل أنها أحيانا تجري ثلث السنة، وهي تجري تسيل ولا تتوقف أربعة أشهر أو ثلاثة أشهر، وإذا توقفت فإن آثارها تبقى مستنقعات في ذلك الوادي وما حوله، وأن الآبار التي حوله تفور بالماء حتى يغترفوا المياه بالأقداح إذا أرادوا أن يشربوا أو يسقوا؛ لا يحتاجون إلى الدلاء. يأتون على فم الحفرة أو البئر ويغترف أحدهم بالقدح طوال السنوات. هكذا ولا يتأخر المطر في سنة غالبا إلا نادرا.
ثم جاء بعد ذلك سنوات مطرها معتاد. بمعنى أنهم يأتيهم المطر في زمن الشتاء في هذه البلاد في نجد وما حولها فيأتي في زمن الشتاء الذي هو زمن الربيع أو ما حوله، وتُغمر الأرض، وتنبت من الأعشاب ومن الأشجار شجر البرادي وما أشبهها. تنبت نباتا خصبا كثيرا؛ ومع ذلك يتوقف في الصيف يتوقف المطر، وأحيانا يأتي بإذن الله في الصيف يعني: مطر الصيف كل ذلك دليل على أن الله تعالى هو الذي يتصرف في عباده كما يشاء، وأن ذلك من آياته التي يذكر بها العباد ليعتبروا وليعرفوا أنهم بحاجة دائمة إلى الله وأنه لا غنى بهم عن ربهم طرفة عين، وأن الله هو مالكهم وهو المتصرف فيهم كما يشاء؛ فيعبدونه حق عبادته ويعظمونه حق عظمته وينصرفون بقلوبهم عن ما سواه.
إذا عرفوا أنهم ملكه وخلقه وعبيده وأنه الذي يعطيهم ويرزقهم إذا شاء، وأنه الذي يعذبهم إذا شاء، فنعرف أن الرياح رحمة أو عذاب، وأن المطر رحمة أو عذاب، رحمة يرحمهم الله بها؛ فينبت لهم النبات ويشربون ويسقون.
وكذلك أيضا عذاب قد يعذب بها من يشاء إذا شاء. بمعنى أنهم يغرقون يعني: ينزل عليهم مطر أو ماء غزير يغرق من حوله فيكون عذابا ويكون رحمة، وكذلك هذه الرياح كما ذكرنا يعتبرون بها، كذلك أيضا يعتبرون بهذا النبات في بعض السنوات ينزل مطر غزير؛ ومع ذلك يقل النبات يقل إنبات الأرض.
ولعل ذلك لنزع البركة. الله تعالى أخبر بأن هذا الماء الذي ينزله مبارك في قوله تعالى: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ وصفه بأنه مبارك، ولبركته كما هو مشاهد المطر الذي يسقي الأرض مرة، ينبت به النبات ويبقى ذلك النبات من تلك الشربة ثلاثة أشهر أو نحوها، حتى البر الذي هو الحنطة إذا بذروه وجاء المطر وغمره وسقاه نبت ذلك الزرع إلى أن يبلغ شطأه، ويستوي وينضج ما شرب إلا مرة واحدة.
أما إذا سقي بما يخرج بالدلاء من أجواف الآبار فإنه قد يحتاج إلى أن يسقى كل أسبوع أو كل أسبوع مرتين أو نحو ذلك دليل على أن ماء السماء فيه البركة التي جعلها فيه حتى يظهر أثره، فهذه تصرفات الله تعالى في عباده ليذكرهم ولينبههم.
أسـئلة
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
س: سائل يقول: قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وقال تعالى: سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ هل يدخل في ذلك الكفار والملاحدة وهم يكفرون وينكرون وجود الله أصلا؟ وكيف يكون تسبيحهم إذا كان الجواب بأنهم يسبحون لله؟
في آية سورة الحج أثبت السجود لبعض الناس في قوله تعالى: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ يعني أن السجود لكثير من الناس، والمراد السجود الاختياري السجود الديني، وأما الكفار فسجودهم ذكر الله تعالى أنه سجود الظل في قوله تعالى: وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ أي: يسجد ظل أحدهم، فإذا كان كافرا أو منكرا لربوبية الله أو لإلهيته فإنه يعتبر عبدا ذليلا مسخرا معبدا لله تعالى.
الله هو الذي يذله إذا شاء، ويهينه إذا شاء ويمرضه ويفقره، ويتصرف فيه وهو لا يقدر على أن يرد تصرف الله عز وجل، فيكون بذلك خاضعا لأمر الله تعالى فكأنه خاضع لتصرفه فيكون هذا ذله لله.
ويطلق السجود على الخضوع والذل؛ لأنه وإن كان الأصل أنه وضع الوجه على الأرض، ولكن قد يطلق السجود على التذلل فإن قوله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ المعنى: لا يتواضعون ولا يتذللون فإنه ليس كل من قُرِئت عليه سورة يجب عليه أن يسجد، وإنما المراد أنهم لا يخشعون ولا يخضعون بل ينفرون ويستكبرون.
س: ما حكم نسبة المطر إلى أن ذلك ناتج عن تبخر البحار ويتكون على إثرها السحاب فيؤدي ذلك إلى هطول المطر، فهل هذا صحيح أم أن هذا يخالف سنن الله جل وعلا في الكون ؟
ليس بصحيح. الله تعالى هو الذي ينشئ السحاب، وهو الذي يرسل الرياح وهو الذي يحمل ذلك السحاب بذلك المطر. ونحن لا نعرف من أين ذلك المطر؟ ومن أين ذلك الماء؟ وكيف ينزل في ذلك السحاب؟ نشاهد مثلا أو يشاهد الطيارون أنهم يرتفعون فوق السحب مسافة رفيعة، وأن السحب تحتهم يكون لها برق ورعد ومطر ولا يحسون بنزول شيء من فوقها إليها ولا يحسون برطوبة. إذا خرقت الطائرة تلك السحب لا تحس برطوبة ولا ببلل يصيبها؛ مما يدل على أن الله تعالى هو الذي يخلق ذلك الماء في ذلك السحب ويحمله إياه كما يشاء.

جزى الله فضيلة الشيخ خير الجزاء، وجعلنا الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه والله أعلم وصلى الله على محمد .


line-bottom