الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه القلوب أوعية؛ منها ما يستوعب الخير، ومنها ما يستوعب الشر. وأفضل القلوب هي التي تمتلئ بالخير،تمتلئ بالعلم وتمتلئ بالدين والعبادة، تمتلئ بالعلم النافع والعقيدة السليمة، هذه هي القلوب الواعية، وهي أرجى القلوب لتحصيل الخير اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية.
الكنز الثمين
91694 مشاهدة
حلاوة الأنس بالله تكون بذكر الله واتباع شرعه

ثم قال الكاتب:
[من ذاق حلاوة أنسه رأى من لطفه العجائب، وتمتع بلذيذ الخطاب بعد رفع الحجاب، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا . لفظ (أيها) بالذات في لغة العرب، لا يقال إلا عند المواجهة، والشاهد لا يكون عن غيبة بل لا بد من حضور، قال صلى الله عليه وسلم: وجعلت قرة عيني في الصلاة ].
جوابه:
أن نقول: يعتقد الصوفية أن حلاوة الأنس بالله تعالى لا تحصل إلا بالخلوة الطويلة والانفراد، ويسمون تلك الخلوة جمعية القلب، فإن أحدهم ينفرد في زاوية من مكان مظلم، ويبدأ في التفكير ويطيل النظر، ويتناسى الخلق كلهم، ويجمع همه على ربه، فربما ترك عدة صلوات متوالية تمر به حالة انفراده؛ مخافة تفرق همومه وفساد جمعيته، وفي النهاية يزعم أنه يحصل له في تلك الخلوة مكاشفات واطلاع على الملأ الأعلى، وعلى أمور غيبية وخفية، ويسمي ذلك لذة الأنس، أو حلاوة المناجاة، ويزعم أنه يتمتع بلذيذ الخطاب، ويرفع له الحجاب عن ربه، فيطلع بقلبه على ما أخفِي عن غيره، ويسمي الذين لم يصلوا إلى درجته ومنزلته محجوبين مبعَدين عن القرب الذاتي إلى ربهم، وقد يصل أحدهم إلى غاية قصوى تسمى عندهم بالفناء، بحيث يفنى أحدهم بموجوده عن وجوده، وبمشهوده عن شهوده، بحيث يفنى من لم يكن، ويبقى من لم يزل، وقد تجرهم هذه الأحوال إلى عقيدة سيئة هي اتحاد الخالق بالمخلوق (عقيدة أهل الحلول)، وقد يزعم بعضهم أن مشايخهم وأكابرهم يصلون إلى درجة تسقط عنهم التكاليف، وتباح لهم المحرمات، ونحو ذلك من الخرافات، التي يمدحهم لأجلها هذا الكاتب وأضرابه.
ونحن نقول: إن حلاوة الأنس بالله لا تحصل إلا بالاشتغال بذكره ودوام عبادته، والبعد عن القواطع والشواغل التي تقسي القلب، وتحول بينه وبين التفكير في آلائه، والتذكر لنعمائه.
وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن للإيمان حلاوة وطعما كما في قوله -صلى الله عليه وسلم- ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار وقال -صلى الله عليه وسلم- ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولا نبيا .
وهكذا أخبر بأن العبادة بها تقر عينه ويرتاح بدنه، وهو معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- وجُعلت قرة عيني في الصلاة وقوله: أرحنا يا بلال بالصلاة .
فهذا ونحوه يفيد أنه -عليه الصلاة والسلام- يجد في الصلاة لذة قلبه وسروره وابتهاجه، وغاية فرحه وراحة بدنه؛ حيث إنه في الصلاة ينقطع عن الغير ويُقْبِلُ بقلبه على ربه، ويلتذ بذكره ومناجاته، ويتقلب من حال إلى حال يجد في كل منها الأنس بالعبادة، وكذا ينتقل من ذكر إلى دعاء، إلى تلاوة، وفي الجميع قوة للقلب والبدن.

فبهذه الأوصاف تكون الصلاة مفيدة، ومؤثرة على العبد وناهية عن الفحشاء والمنكر، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- إنما يلتذ بالعبادة بأي وصف كانت، ولم يكن يؤثر الخلوة والانفراد، وليس في كون الصلاة قرة عينه ما يدل على أحوال الصوفية، وأذواقهم، ومواجيدهم، ولو من بعيد.
فنحن نقول: ما نوع الأنس الذي يذوقون حلاوته، ثم يرون من لطفه العجائب؟ فإن كان الأنس بالذكر والصلاة والدعاء والتلاوة والتنقل في العبادة، فليس من شرط ذوقه الانفراد والعزلة والبعد عن الناس، وترك الجمع والأعياد، والجماعات، بل إن حلاوة العبادات يحس بها كل من أحضر قلبه حال أدائها، وأعرض عن كل ما يشغل القلب عن الإقبال على التدبر من أوهام ووساوس وحديث نفس، فتفريغ القلب من ذلك سهل ويسير على من يسره الله عليه، فهؤلاء هم الذين يوليهم الله عنايته ويلطف بهم، ويكون من آثار لطفه أن يحميهم ويحفظهم عن القواطع، والعوائق، ويعصمهم من كبائر الإثم والفواحش، ويحميهم أيضا من الشهوات والملذات التي تعوق سيرهم إلى ربهم، ويكون من آثار لطفه توفيقهم وتسديدهم في الأقوال، والأعمال، والإقبال بقلوبهم على الطاعات، والاستكثار من الصالحات، وهذه سيرة الصحابة -رضي الله عنهم- ومن سار على نهجهم، الذين عمروا أوقاتهم بالتعلم والتفهم، والعمل والتطبيق، وهم مع ذلك لم ينقطعوا عن الشهوات المباحة أسوة بنبيهم الذي قال: لكني أصوم، وأفطر، وأقوم، وأنام، وآكل اللحم، وأتزوج النساء، فمن يرغب عن سنتي فليس مني .
فأما قول الكاتب [وتمتع بلذيذ الخطاب بعد رفع الحجاب] .
فنقول: إن أراد التمتع والتلذذ بتدبر القرآن وتعلقه بحيث يعده خطابا من ربه إليه، فهذا حق وصواب، فإن الله تعالى أمر بذلك كما في قوله: لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه وقوله: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ . لكن ليس من شرط هذا التمتع خلوة، أو انفراد، بل يحصل التلذذ بتدبره في الصلاة، وبين الناس.
فأما إن أراد التمتع بلذيذ خطاب ربه وسماع كلامه منه إليه، وأن أهل الأحوال تتصل قلوبهم بالملأ الأعلى، ويناجون الله ويكلمهم ويكلمونه، ونحو ذلك، فكل ما يقولون في هذا الباب هوس ووحي شيطان، فإن الله تعالى خص أنبياءه بوحيه وخص موسى بالتكليم، كما قال تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا . وكذلك نبينا -صلى الله عليه وسلم- ليلة المعراج، وقد قال تعالى: وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم .
وهذا الكاتب قد ذكر أن الصوفية ترفع عنهم الحجب والأستار، ويناجون ربهم ويتلذذون بكلامه، ومعنى هذا: أنهم فاقوا كثيرا من الأنبياء والرسل، الذين هم الواسطة بين الله وبين العباد، فإن الرسل إنما يوحي الله إليهم وحيا، أو يرسل إليهم رسولا ملكيا أو يكلمهم من وراء حجاب، كما في نص هذه الآية، أما الصوفية في زعم هذا الكاتب فإنها ترفع لهم الحجب، وتخترق قلوبهم الأستار، وتتصل بالملأ الأعلى، وتسمع خطاب الرب تعالى مباشرة، و تتمتع بلذيذ ذلك الخطاب، فهل بعد هذا الغلو والرفع لمقامهم من زيادة؟! سبحان ربنا الأعلى!!
فأما استدلاله بقوله تعالى: [ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وقوله: لفظ أيها بالذات في لغة العرب، لا يقال إلا عند المواجهة، والشاهد لا يكون عن غيبة بل لا بد من حضور].
فالمتبادر أنه يقصد أحد أمرين: أحدهما: أن الله خاطبه وهو حاضر شاهد عنده، بأن كشف له الأستار، وقربه من حضرة القدس، وخاطبه كفاحا بلا واسطة ملك ولا غيره، وهذا ليس على إطلاقه، فإن الآيات التي فيها نداء النبي -صلى الله عليه وسلم- في القرآن كثيرة، ومعلوم أنها نزلت كغيرها بواسطة الملك وحيا من الله إليه، كما في قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ .
الثاني : أن يقصد أننا متى قرأنا هذه الآية، فإنا نخاطب الرسول -صلى الله عليه وسلم- كأنا نراه مواجهة ومقابلة، وأنه شاهد عندنا حاضر ليس بغائب، فيفيد ذلك أنه حي لم يمت، وأنه يسمع كل من خاطبه بهذه الآية أو غيرها، وأنه شاهد مع كل أحد في كل مكان، متى ناداه وخاطبه سمعه وأجابه، وأن هذا الوصف يعم كل ولي وصالح من أكابر الصوفية، ونحوهم، وهذا لا يصح، فلفظ (أيها): ليس خاصا كما قال هذا بالمواجهة؛ بل إن الله خاطب نبيَّه بهذه الآيات الكثيرة آمرا له بما أرسله به، وما كلفه به من البشارة، والنذارة، والتبليغ، والبيان، وكل ذلك أنزله بواسطة ملك الوحي، فالخطاب بواسطة يناسب فيه لفظ (أيها) فلا تدل على استلزام مواجهة، ومقابلة.
أما لفظ الشاهد: فالمراد الشهادة على الأمة بأنهم قد بُلِّغوا ودُعُوا وقامت عليهم الحجة، كما في قوله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا . وقوله: لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ . قيل: شاهدا على أنه قد بلّغكم ما أنزل إليه وبينه لكم، وقيل: شاهدا على أصحابه بحسن أعمالهم وصلاحهم واستقامتهم، فما يوهمه كلام الكاتب لا صحة له.