اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) . شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه. إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع.
شرح الوصية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية
50286 مشاهدة
وسطية أهل السنة في إثبات أفعال الله تعالى

...............................................................................


هذا بالنسبة إلى التوسط بين اليهود والنصارى. كذلك أيضا التوسط في فرق الأمة. سمعنا أن أهل السنة والجماعة وسط في أفعال الله تعالى؛ وسط في أسماء الإيمان والدين، ففي أفعال الله وسط بين طائفتين متطرفتين؛ طائفة غلت وطائفة جفت. فهناك طائفة نفت فعل الله تعالى وقالوا: الله ليس بقادر على أن يهدي، ولا أن يضل؛ بل العبد هو الذي يهدي نفسه ويضل نفسه، وهو الذي يفعل ما يريد، ولا قدرة لله على العباد؛ العباد يفعلون بدون إرادة الله وبدون قدرته وبدون مشيئته؛ يسمى هؤلاء مجوس هذه الأمة؛ هم القدرية الذين أنكروا قدرة الله.
وفيهم يقول الإمام أحمد القدر قدرة الله. نفوا أفعال الله تعالى، وزعموا أن هذا من باب التنزيه؛ قالوا: الله لا يمكن أن يخلق فعل العبد ثم يحاسبه عليه؛ بل العباد هم الذين يخلقون أفعالهم، لا يقدر الرب تعالى على أن يهدي أحدا، ولا على أن يضل أحدا ولا على أن يرجع بقلب هذا ولا غير هذا؛ بل أفعالهم خارجة عن قدرته وخارجة عن إرادته.
هؤلاء هم المعتزلة ويسمون القدرية؛ وردت فيهم أحاديث، ولكن الصحيح أنها موقوفة لم تثبت عن الصحابة؛ التي فيها: القدرية مجوس هذه الأمة إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوهم ونحو ذلك من الأحاديث.
أما الطائفة الثانية: فهم الذين غلوا في إثبات القدرة ويسمون المُجْبرة أو الجبرية الذين سلبوا العبد قدرته واختياره، وجعلوه مجبورا على أفعاله ليس له أية قدرة، وليست له أية اختيار، وجعلوا حركته كحركة المرتعش الذي تضطرب يداه ولا يقدر على إمساكها، أو كحركة الرياح للشجر. معلوم أن الشجر ليس يحرك نفسه، فقالوا: ليس للعبد أية قدرة، ويسمون الجبرية ويقول قائلهم:
ألقاه في البحر مكتوفا وقال له
إيـاك إياك أن تبتـل بالماء
يشبهونه؛ الإنسان الذي. يقولون: الله تعالى هو الذي دفعه إلى هذه الذنوب فكيف يعاقبه؟ هو الذي خلقها فيه، وهو الذي زجه فيها فلا قدرة له ولا احتيال له فهو مثل الإنسان المكتوف الأيدي والأرجل ألقي في البحر، ثم قيل له لا تبتل ثيابك ولا يبتل جلدك كيف يملك ذلك وهو مكتوف؟
وقد ذكروا أن ذميا كما سمى نفسه؛ والظاهر أنه مجبر جبري رفع إلى شيخ الإسلام ابن تيمية أبياتا يعترض فيها بالقدر، والتي يقول فيها:
أيا علماء الدين ذمّـي دينكم
تحير دلــوه علـى خير ملة
ثم يقول:
دعاني وسد الباب دوني فهل إلى
دخولي سبيل بينوا لي حيلتي
يقول:
إنه بمنزلة من يدعوني للدخول، ثم يغلق الباب دوني:
إذا ما قضى ربي بطردي وشقوتي
وإبعادي عنه فما وجه حيلتي
فالحاصل أنه رد عليه شيخ الإسلام بقصيدة على نمط قصيدته؛ أولها قوله:
سؤالك يا هذا سـؤال معـاند
مخاصم رب العرش باري البرية
وتدعى خصوم الله يوم معادهم
إلى النار طرا معشر القدرية
سواء نفوه أو سعوا ليخاصموا
به الله أو ماروا به في الخليقة
إلى آخرها؛ أكثر من مائة بيت، أو مائة وعشرين بيتا، مذكورة في المجلد الثامن من الفتاوى. فالحاصل أن هذا القول قول فيه تعطيل للشريعة معناه أن الله تعالى ظلم العباد؛ حيث أمرهم وهم عاجزون، ونهاهم وهم عاجزون؛ وحيث إنه هو الذي أوقعهم في هذه الذنوب وخلقها فيهم ولا قدرة لهم فيها.
وهؤلاء شابهوا المشركين فإن الله حكى عن المشركين مثل هذا في قوله تعالى عنهم: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ وفي قولهم: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا ونحو ذلك من الآيات تدل على أن المشركين هم الذين يعتقدون أنه لا قدرة لهم، وأن الله ما شاء هدايتهم.
ويحتج بذلك كثير من العصاة؛ يحتجون بالقدر، وذكروا أن قدريا سرق فرفع إلى عمر يعني من يحتج بالقدر فقال: أتقطع يدي وهو قدر. الله قدر علي أني أسرق؟ فقال: سرقت بقدر الله، وأنا أقطع يدك بقدر الله. يعني أن الله سلط عليك.
فنقول: إن أهل السنة يعتقدون أن الله تعالى هو خالق كل شيء بما في ذلك أفعال العباد، ولكن أعطى العباد قدرة وإرادة يستطيعون بها مزاولة الأعمال؛ وتنسب إليهم، وتضاف إليهم الطاعات والمعاصي والأعمال، وإن كانت تلك القدرة خاضعة لقدرة الله.
فلذلك نقول: إن العبد له قدرة، وله إرادة، وقدرته مسبوقة بقدرة الله، وإرادته مسبوقة بإرادة الله، وهذه القدرة التي أقدره الله عليها فيها ميل وفيها إيثار منه، وفيها استطاعة تنسب إليه فلأجل ذلك قالوا: القدر قدرة الله، والقدرة التي للعبد داخلة في قدرة الله، ولكنها تنسب إليه، فهو يستطيع أن يقوم وأن يحمل وأن يحرث. لما كان صغيرا طفلا لم يستطع ذلك، فيسر الله وسخر له أبويه حتى يقومان بحاجته، وبعدما قويت أعضاؤه وعضلاته أمر بأن يعمل لآخرته ولدنياه، ولعل التوسع في هذا يأتينا مستقبلا إن شاء الله.