جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. شرع الله تطهير هذه الأعضاء وغسلها وتنظيفها عند القيام إلى الصلاة أو عند وجود حدث؛ حتى يصير المصلي نظيف البدن، وحتى يحصل له النشاط والقوة، وحتى يقبل على الصلاة بصدق ومحبة ورغبة (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم. إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية.
شرح الوصية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية
48579 مشاهدة
مثال لوسطية الأمة بين اليهود والنصارى

...............................................................................


ذكر أن أهل السنة وسط في فرق الأمة؛ كما أن الأمة وسط في الأمم السابقة، وأراد بذلك حث الأمة على أن يثبتوا على هذه الوسطية؛ لا غلو ولا جفاء، فإنا سمعنا أن اليهود صاروا ينكرون شرع الله ولا يقبلون إلا ما بأيديهم، وكثيرا ما يردون كثيرا مما بأيديهم؛ فأنكروا صرف القبلة وقالوا: مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا فلا يؤمنون إلا بما في كتابهم، فمثل هؤلاء تحجروا واسعا، واقتصروا في زعمهم على ما بأيديهم مع أنهم لا يعملون بكثير منه؛ فذكر الله أنهم يردون كثيرا منه في قوله: أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فهذا طرف من الأطراف.
أما الطرف الثاني فهم النصارى الذين توسعوا في التحليل والتحريم، وجعلوا أئمتهم وعلماءهم وعبادهم يشرِّعون لهم ويأخذون ما شرعوه. أنكر الله ذلك عليهم بقوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ اتخذوهم أربابا.
سمعنا أن عدي بن حاتم لما وفد إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد تنصر في الجاهلية مع أنه من العرب فقال: يا رسول الله: إنهم لم يعبدوهم كيف تقول: اتخذوهم أربابا. إنهم لم يعبدوهم وفي رواية: لسنا نعبدهم. ففسر له النبي صلى الله عليه وسلم عبادتهم بأنهم يحلون لهم الحرام، ويحرمون لهم الحلال قال: أليس يحلون ما حرم الله فتحلونه؟ قال: بلى أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه؟ قال: بلى. قال: فتلك عبادتهم بمعنى أنهم أطاعوهم في تغيير شرع الله؛ فصاروا في طرفي نقيض، هؤلاء تحجروا فلا يقبلون إلا بعض ما جاء في كتبهم، وهؤلاء توسعوا فصاروا يحلون ويحرمون ويغيرون شرع الله.
وتوسطت هذه الأمة واقتصرت على شرع الله؛ فلا يغيرون من شرع الله شيئا، ولا يردون منه شيئا. لا يردون منه مع ثبوته بل يقبلونه، ولا يزيدون عليه ويغيرونه عن وضعه بل يعملون به، هذا توسطهم في هذا الأمر.