الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه logo إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم. لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع.
shape
شرح الوصية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية
70850 مشاهدة print word pdf
line-top
النبي صلى الله عليه وسلم بين لأمته كل ما تحتاج إليه في أمور دينها

بسم الله الرحمن الرحيم.
قال شيخ الإسلام أحمد ابن تيمية رحمه الله تعالى: وأنتم تعلمون -أصلحكم الله- أن السنة التي يجب اتباعها، ويحمد أهلها، ويذم من خالفها هي سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمور الاعتقادات، وأمور العبادات، وسائر أمور الديانات؛ وذلك إنما يعرف بمعرفة أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم الثابتة عنه في أقواله، وأفعاله، وما تركه من قول وعمل، ثم ما كان عليه السابقون، والتابعون لهم بإحسان.
وذلك في دواوين الإسلام المعروفة مثل: صحيحي البخاري ومسلم وكتب السنن مثل سنن أبي داود والنسائي وجامع الترمذي وموطأ الإمام مالك ومثل المسانيد المعروفة كمسند الإمام أحمد وغيره.
ويوجد في كتب التفاسير و المغازي وسائر كتب الحديث جملها وأجزائها من الآثار ما يستدل ببعضها على بعض. وهذا وقد أقام الله لهم من أهل المعرفة من اعتنى به، حتى حفظ الله الدين على أهله.
وقد جمع طوائف من العلماء الأحاديث والآثار المروية في أبواب عقائد أهل السنة مثل: حماد بن سلمة وعبد الرحمن بن مهدي وعبد الله بن عبد الرحمن الدارمي وعثمان بن سعيد الدارمي وغيرهم في طبقتهم، ومثلها ما بوب عليه البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم في كتبهم.
ومثل مصنفات أبي بكر الأثرم وعبد الله بن أحمد وأبي بكر الخلال وأبي القاسم الطبراني وأبي الشيخ الأصبهاني وأبي بكر الآجري وأبي الحسن الدارقطني وأبي عبد الله بن منده وأبي القاسم اللالكائي وأبي عبد الله بن بطة وأبي عمرو الطلمنكي وأبي نعيم الأصبهاني وأبي بكر البيهقي وأبي ذر الهروي وإن كان يقع في بعض هذه المصنفات من الأحاديث الضعيفة ما يعرفه أهل المعرفة.
وقد يروى كثير من الناس في الصفات، وسائر أبواب الاعتقادات، وعامة أبواب الدين أحاديث كثيرة تكون مكذوبة موضوعة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي قسمان:
منها: ما يكون كلاما باطلا لا يجوز أن يقال فضلا عن أن يضاف إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
والقسم الثاني من الكلام: ما يكون قد قاله بعض السلف، أو بعض العلماء، أو بعض الناس، ويكون حقا، أو مما يسوغ فيه الاجتهاد، أو مذهبا لقائله، فيعزى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا كثير عند من لا يعرف الحديث، مثل المسائل التي وضعها أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن علي الأنصاري وجعلها محنة؛ ليفرق بها بين السني وبين البدعي، وهي مسائل معروفة عملها بعض الكذابين، وجعل لها إسنادا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجعلها من كلامه، وهذا يعلمه من له أدنى معرفة أنه مكذوب مفترى.
وهذه المسائل وإن كان غالبها موافقا لأصول السنة ففيها ما إذا خالفه الإنسان لم يحكم بأنه مبتدع مثل أول محنة أنعم بها على عبده؛ فإن هذه المسائل فيها نزاع بين أهل السنة، والنزاع فيها لفظي لأن مبناها على أن اللذة التي يعقبها ألم هل تسمى محنة أم لا؟ وفيها أيضا أشياء مرجوحة.
فالواجب أن يفرق بين الحديث الصحيح والحديث الكذب؛ فإن السنة هي الحق دون الباطل، وهي الأحاديث الصحيحة دون الموضوعة، فهذا أصل عظيم لأهل الإسلام عموما، ولمن يدعي السنة خصوصا.
وقد تقدم أن دين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والله تعالى ما أمر عباده بأمر إلا اعترض الشيطان فيه بأمرين لا يبالي بأيهما ظفر إما إفراط فيه، وإما تفريط فيه.
وإذا كان الإسلام الذي هو دين الله لا يقبل من أحد سواه قد اعترض الشيطان كثيرا ممن ينتسب إليه حتى أخرجه عن كثير من شرائعه، بل أخرج طوائف من أعبد هذه الأمة وأورعها عنه، حتى مرقوا منه كما يمرق السهم من الرمية، وأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقتال المارقين منه، فثبت عنه في الصحاح وغيرها في رواية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وسهل بن حنيف وأبي ذر الغفاري وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن عمر وابن مسعود رضي الله عنهم وغير هؤلاء أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر الخوارج فقال: يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، وقراءته مع قراءتهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، أينما لقيتموهم فاقتلوهم -أو فقاتلوهم- فإن في قتلهم أجرا عند الله لمن قتلهم يوم القيامة لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد وفي رواية: شر قتيل تحت أديم السماء، خير قتيل من قتلوه وفي رواية: لو يعلم الذين يقاتلونهم ما زوي لهم على لسان محمد صلى الله عليه وآله وسلم لنكلوا عن العمل وهؤلاء لما خرجوا في خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه قاتلهم هو وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتحضيضه على قتالهم، واتفق على قتالهم جميع أئمة الإسلام. وهكذا كل من فارق...


هذه وصية بالسنة التي هي أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله وطريقته التي ترك الأمة عليها، فثبت عنه أنه قال: لقد تركتكم على مثل البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك وشهد له الصحابة بأنه بلغهم وبين كل ما يحتاجون إليه.
ففي حجة الوداع لما خطبهم قال لهم: إنكم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد بأنك قد بلغت، وأديت، ونصحت شهدوا له بأنه بلغ.
كذلك أيضا ذكروا أنه قام مرة موقفا يعلم فيه أصحابه، فذكر أول الأمر وآخره من بدء الخلق حتى ذكر دخول أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه، وكذلك أيضا يقول أبو ذر توفي النبي صلى الله عليه وسلم وما طائر يطير بجناحيه إلا ذكر لنا منه علما.
وفي صحيح مسلم أنه صلى الله عليه وسلم قال: ما بعث الله من نبي إلا كان حقا عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، ويحذرهم من شر ما يعلمه لهم ولا شك أنه قام بذلك أنه بين لأمته الخير، وحثهم على التمسك به، وبين لهم الشر، وحذرهم عن الوقوع فيه، وسواء كان الشر فيما يضر الأبدان، أو فيما يضر القلوب والعقائد، أو فيما يتعلق بالمكاسب، وما أشبهها، كل ذلك قد وضحه وبينه لأمته، وحذرهم من مخالفته.

line-bottom