جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. logo الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه إذا ضعفت العقيدة في القلوب ضعف العمل، فإذا رأيت الذي يكون ضعيفا في عباداته، في صلواته وزكواته وما إلى ذلك، فاعلم أن ذلك لضعف في عقيدته بالأساس.فالعقيدة حقيقة إذا امتلأ بها القلب ظهرت آثارها على الجواربالوقوف قائما أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية.
shape
شرح سلم الوصول وأبواب من كتاب التوحيد
107307 مشاهدة print word pdf
line-top
إثبات صفة البصر لله تعالى

بدأ بعد ذلك في صفات أخرى: صفة السمع، والبصر، والعلم:
وهو الـذي يـرى دبـيـب الــذر
في الظلمـات فـوق صم الصخــر
في هذا إثبات البصر، أنه -سبحانه وتعالى- وصف نفسه بأنه بصير، ويقول:
وسامـع للجـهـر والإخـفــات
بسمعــه الـواسـع للأصــوات
وصف نفسه أيضا بالسمع، البصر: إدراك المرئيات، المرئيات الشاخصة؛ إدراك ذلك يسمى إبصارا، والسمع: إدراك الأصوات وإدراك الحركات التي لها تأثير، فالله -سبحانه وتعالى- هو السميع البصير، أخبر عن بصره بأنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء: إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وأخبر بأنه يرى كل شيء، اقرأ قول الله تعالى: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يرى حركاتك، ويرى تنقلاتك، وكذلك قال تعالى: وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ؛ يعني يرى الذر ويعلم حركاتها، ويرى ما في جوفها، يرى ما كان خفيا، يرى الذرة حين تسير في ظلمة الليل، ويرى أيضا ما هو مثلها، أو أصغر منها.
في أبيات للزمخشري يقول فيها:
يا من يـرى مد البعوض جناحــه
في ظلمة الليـل البهيـم الأليــل
ويرى مناط عروقها فـي نحرهــا
والمخ في تـلك العظـام النحــل
امنن علـي بتوبة تمحــو بهــا
ما قد مضـى لي في الزمـان الأول
يعني أنه سبحانه وتعالى هو الذي خلق هذه المخلوقات، وهو الذي قدر لها الأقوات، فيسمع أصواتها، ويرى مكانها، ولو كانت صغيرة، الذر: صغار النمل، النمل الصغير، وهو أنواع الذر: منه ما هو كبير، ومنه ما هو متوسط، ومنه ما هو صغير، فالصغير جدا هو الذي يسمى بالذر، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ فجعل أو مثل بالذر لأنهم يشاهدون أنه من أصغر المخلوقات، يرى دبيب الذر؛ يرى مواضع الوطء من أقدامها، كم تخطو من خطوات، والموضع الذي وقعت عليه قوائمها، ولو كان ذلك في الظلمات، ولو كانت على صخرة صماء؛ فإن ذلك لا يخفى عليه.
فائدة إيماننا بهذا مراقبته مراقبة الله تعالى؛ إذا علم العبد أنه دائما بمرأى، ومسمع من ربه فإنه يراقبه، أو يشاهده تعرفون تفسير الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك الرتبة الأولى تسمى عين المشاهدة، والثانية تسمى عين المراقبة، أن تعبد الله كأنك تراه ماذا تسمى؟ عين المشاهدة، فإن لم تكن تراه فإنه يراك؛ هذه عين المراقبة، فمن علم بأن الله تعالى يراه فإنه يراقب الله فلا يقدم على ذنب، ولا يتجرأ على معصية، ولا على ترك طاعة؛ لأنه يعلم أن الله رقيب عليه، تذكرون قول الشاعر:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقـل
خلوت ولكـن قــل علـي رقـيـب
علي رقيب؛ الله تعالى يراقبك ويراك.
؛ ففائدة إيمانك برؤية الله تعالى أن تراقبه فلا تتجرأ على معصية، وأنت تعلم أنه يراك ولو كانت صغيرة، يقول بعض العلماء: لا تنظر إلى صغر الذنب؛ ولكن انظر إلى عظمة من عصيته، وهذه المراقبة تؤثر فيمن يؤمن بها دائما، ذكر ابن رجب في شرح خمسين حديثا من جوامع الكلم قال: راود رجلا أعرابية على نفسها في ظلمة الليل، وقال: ما يرانا إلا الكواكب، قالت: فأين مكوكبها؟ يعني الذي خلقها يرانا، كان ذلك سببا لارتداعه، وذكروا أن رجلا دخل على امرأة أو أدخلها في منزل وأرادها على نفسها، وقال لها: أغلقي الأبواب. فأغلقت الأبواب كلها، قال: هل بقي شيء من الأبواب؟ قالت: نعم الباب الذي بيننا وبين الله، فارتعد واقشعر جلده وخرج وتركها، فهكذا يكون أثر من يعلم بأن الله يراه.
جاء في حديث: أفضل العبادة أن تعلم أن الله يراك حيثما كنت ؛ يعني فإن هذا من الإيمان بالغيب، وقد أنكر الله تعالى على الذين لا يستحضرون عظمة الله تعالى ويعتقدون أنه لا يراهم ولا يسمعهم، في حديث عن عبد الله بن عمرو قال: اجتمع ثلاثة نفر في البيت الحرام في مكة في المسجد قليل فقه قلوبهم كثير شحم بطونهم، فقال بعضهم: أترون أن الله يرانا أو يسمعنا؟ فقال أحدهم: يسمعنا إذا جهرنا ولا يسمعنا إذا أخفينا، وقال الآخر: إن كان يسمعنا إذا جهرنا فهو يسمعنا إذا أخفينا، أنزل الله تعالى فيهم: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ .
فنعرف بذلك فائدة إيماننا بهذا، أن نؤمن بأن الله تعالى يرانا ويرى كل شيء، فإننا إذا آمنا بذلك لم نتجرأ على ذنب ولم نفعل أية معصية، كيف نفعلها وربنا يشاهدنا؟ كيف نفعلها وقد نهانا الله عنها؟ كيف نفعلها وقد توعد الله عليها بالعقاب؟
فنقول: الذين يتجرءون على المعصية يستخفون برؤية الله تعالى، والذين يتحاشون من المعاصي يستحضرون رؤية الله تعالى، كما ذكر أن فلانا سمي في بعض الروايات الذي كان قد عشق معشوقته، وأخذ يشبب بها، وأخذ يتمنى لقاءها، سأله رجل فقال: لو خلوت بها في مكان لا يراكما إلا الله تعالى ماذا تفعل معها؟ فقال: لا أجعل ربي أهون الناظرين، يعني لا أتهاون بنظر الله تعالى، فهكذا يكون العارف بالله تعالى.

line-bottom