تفسير كلمة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب
توحيد الربوبية وحده لا يكفي
...............................................................................
وإذا اعترفوا بهذا النوع الذي هو توحيد الربوبية؛ فإنه يصير حجة عليهم في توحيد الألوهية. إذا اعتبرتم هذه المخلوقات خلق الله؛ فإن واجبا عليكم أن تؤمنوا بالله، وأن تجعلوه هو إلهكم ومعبودكم وربكم وحده، فلا تصرفوا شيئا لمعبوداتكم من حقه؛ بل أخلصوا له العبادة وادعوه وحده، فقد اعترفتم بأنه الذي خلقكم، والذي خلق السماوات والأرض، وأنه رب السماوات السبع، ورب العرش العظيم، وأنه الذي يجير ولا يجار عليه، وأنه الذي بيده ملكوت كل شيء، وأنه الذي يدبر الأمر، وأنه الذي سخر هذه المخلوقات، اعترفتم بذلك.. فلماذا تجحدون وحدانيته وتعبدون معه غيره؟! هكذا ذكر الله –تعالى- عن مثل المشركين الذين في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم- وأنهم يعترفون بذلك.
ويقول المؤلف: هذه مسألة عظيمة، جليلة مهمة.
يعني: معرفتك بأن الأولين يقرون بتوحيد الربوبية، مسألة عظيمة أن تعرف أن الكفار الذين قاتلهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شاهدون بهذا كله، مقرون به، شاهدون بأن الله ربهم وخالقهم ومدبر الأمور، وأنه الذي خلق الخلق، وأنه الذي يدبر الأمر وسخر الشمس والقمر. وهذا لم يدخلهم في الإسلام؛ مع هذا كله ما دخلوا بذلك في الإسلام، ولا حرمت دماؤهم وأموالهم.
كانوا على هذا المعتقد الذي هو الإقرار بتوحيد الربوبية، وكانوا -أيضا- يخلصون في حالة الشدة؛ وإنما شركهم في حالة الرخاء، وكانوا -أيضا- عندهم بقايا من دين إبراهيم اسم> عندهم بقايا، فذكر -هنا- أنهم يتصدقون، ويحجون ويعتمرون ويتعبدون، ويتركون أشياء من المحرمات خوفا من الله -عز وجل- هذه العبادات يتقربون بها إلى الله، الصدقة يعتبرونها عبادة، يتصدقون، وذكروا في احتجاجهم على اليهود فقالوا: أخبرونا أينا خير أم محمد اسم> ؟ قالوا: ما أنتم وما محمد اسم> . فقالوا: نحن نكرم الضيف، ونحن نسقي الحاج، ونحن نصل الرحم، ونحمل الكَلَّ، ونحن نخدم وفود بيت الله، نحن نعمر بيت الله. أخذوا يمدحون أنفسهم، فقالوا: وما محمد اسم> ؟ قالوا: محمد اسم> قطع أرحامنا، وسفك دماءنا، وسب آلهتنا، وسفه أحلامنا، وسب آباءنا. فقالوا: أنتم خير من محمد اسم> أنزل الله فيهم قوله تعالى: رسم> وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا قرآن> رسم> .
فالحاصل.. أن عند المشركين عبادات، فعندهم تعظيم البيت، يحترمون البيت، البيت الحرام يعظمونه ويحترمونه، هم أولا: عمروه بعدما انهدم مع طول الزمان، انهدم وبقي مدة طويلة وهو منهدم، ولم يجرءوا على عمارته؛ وسبب ذلك يقولون: كلما جاءوا إليه وإذا فيه حية كبيرة؛ فإذا قربوا منها اشرأبت ونفرت، فهابوها، وبقوا على ذلك، ثم أرسل الله إليها عقابا؛ فاختطفتها بمخالبها ورفعتها، فعند ذلك.. عمروا البيت، وفي ذلك يقول شاعرهم:
عجبت لمـا تصـوبت الـعـقـاب | إلى الثعبـان وهي لهـا اضطـراب |
وقـد كـانت يكـون لهـا كشـيش | وأحيانـا يكـون لـهـا وثــاب |
إذا قـمنـا إلـى التأسيـس شـدت | تهوبنـا البنــاء وقـد تهــاب |
فلما أن خشينا الرجـز جــاءت | عقـاب تتلئـب لـهـا انصـبـاب |
فضـمـتهـا إلـيهـا ثـم خـلـت | لنا البنيـان ليـس لـه حـجـاب |
فقـمـنـا حـاشـدين إلـى بنـاء | لنـا منـه الـقـواعـد والـتراب |
غداة نـرفع التـأسـيـس مـنـه | وليس عـلى مسـاوينـا ثيـاب |
أعـز بـه المـليـك بنـي لــؤي | فليس لأصـلـه مـنهـم ذهــاب |
كانوا -أيضا- يطوفون به، وكان العرب يحترمون البيت؛ فلا يطوفون به في ثياب قد عصوا الله فيها، إذا جاءوا إلى البيت فإنهم يطوفون عراة، ويقولون: لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها. إما أن تعطيهم قريش ثيابا؛ وإلا يطوفون عراة.
هذا -أيضا- من احترامهم للبيت، فدل على أن عندهم بقايا من دين إبراهيم اسم> يطوفون بالبيت، ويطوفون بالصفا اسم> والمروة اسم> وكذلك أيضا يحجون؛ ولكن أهل مكة اسم> لا يخرجون من حدود الحرم اسم> ويسمون الحُمْس، يبقون في المزدلفة اسم> وبقية الحجاج يصلون إلى عرفة اسم> ثم يفيضون من عرفة اسم> إلى مزدلفة اسم> ثم يبيتون بمنى اسم> ويبقون فيها، ويرمون الجمار، فيطوفون بالبيت، يكثرون من التطوف بالبيت. هذه بقايا من العبادات.
وكانوا -أيضا- يتعبدون بعبادات كثيرة؛ بحيث إنهم يتعبدون بمثل سقي الحاج، السقاية كانت لبني عبد المطلب اسم> وكذلك الحجابة -حجابة البيت- يعني: من عندهم مفاتيح البيت وهم بنو عبد الدار اسم> فيجعلون ذلك -أيضا- عبادة، كذلك أيضا إكرام الحاج، إذا قدم الحجاج يكرمونهم، ويطعمونهم أنواع الأطعمة، وغير ذلك من عباداتهم؛ لكن الأصل أنهم يعبدون الله –تعالى- ويريدون أن تكون عبادتهم تنفعهم في الدنيا؛ لأنهم ما كانوا يؤمنون بالدار الآخرة، لما رأوا أن الميت يموت وأنه يذهب ترابا استبعدوا أن يحيا في الآخرة، واستبعدوا أن يكون هناك جزاء أخرويا؛ فلذلك كانت عباداتهم يرجون أجرها في الدنيا، يرجون أن يعجل الله لهم أجرها في الدنيا برزقهم وبكثرة أموالهم وأولادهم، وبما يفتح عليهم من النصر والتمكين، وما أشبه ذلك. فهذا أثر عباداتهم.
ولما كانت تلك العبادات لم تكن على التوحيد -كانوا يفسدونها بالشرك- لن تنفعهم؛ بل أخبر الله –تعالى- بأنها تصير هباء منثورا، قال تعالى: رسم> وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا قرآن> رسم> أي: مثل الدخان، أو مثل الغبار لا يمكن أن يتحصل منه على شيء، ولا على ملء اليد.
وأخبر -أيضا- بأنها لا حقيقة لها بقوله تعالى: رسم> وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا قرآن> رسم> الإنسان إذا كان يسير في قفر، في فلاة قفر يخيل إليه من مكان بعيد أن هناك ماء، أن هناك مستنقع ماء؛ فإذا جاءه لم يجد فيه شيئا، فهكذا أعمال هؤلاء، وكذلك مثل أعمالهم بآية أخرى بقوله تعالى: رسم> مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ قرآن> رسم> إن اشتدت الريح في هذا الرماد في يوم عاصف شديد الرياح، هل يجمع منه شيء بعدما يتفرق؟ فهذه حاصل أعمالهم.
مسألة>