إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه logo تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية. لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم.
shape
تفسير كلمة التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب
112626 مشاهدة print word pdf
line-top
إقرار المشركين بتوحيد الربوبية

...............................................................................


فالأمر الأول: أن تعرف أن المشركين الأولين الكفار الذين قاتلهم رسول -صلى الله عليه وسلم– وقتلهم، وأباح أموالهم، واستحَلَّ نساءهم، كانوا يُقِرُّون لله -سبحانه وتعالى- بتوحيد الربوبية.
وإذا قلت: مِنْ أين أَقَرُّوا بذلك؛ مع أنهم جُهَّالٌ أهل جاهلية؟!
الجواب: أنهم تلقوا ذلك.. إما بالفطرة، وإما بالوراثة، وإما بالعقل. فاعتقدوا توحيد الربوبية.
والغالب أنه بالوراثة؛ وذلك لأن اليهود والنصارى تلقوا هذا التوحيد من كتب أنبيائهم الذين وَرَّثُوا لهم كتبا منزلة كالتوراة، والإنجيل، وشروحهما، وما عُلِّقَ عليهما. ففيها شرح العقيدة، وشرح توحيد الربوبية، وما يدل عليه؛ فلذلك كانوا على هذه العقيدة؛ التي هي الإقرار بتوحيد الربوبية.
وأما المشركون فالأصل -أيضا- أن عندهم بقايا من دين إبراهيم وإسماعيل ؛ فإن العرب أغلبهم من ذرية إسماعيل بن إبراهيم مضر، ونزار، وربيعة يفتخرون بأنهم من ذرية إسماعيل . ولا شَكَّ أن دين إسماعيل بقي منه بقايا إلى عهد قريب -عهد النبوة- كانوا يعبدون الله، ويوحدونه، ويخلصون له العبادة من قرون طويلة إلى أن حدث فيهم الشرك في الأزمنة المتأخرة.

وكان أول ما حدث في زمن رجل من خزاعة يقال له: عمرو بن لُحَيِّ بن قمعة بن خندف الخزاعي وكانت خزاعة في ذلك الوقت هم المستولون على البيت وعلى الحرم و مكة فكانوا إذا أحرموا يقولون في تلبيتهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك اللهم لبيك. فَتَمَثَّلَ الشيطان مرة لِعَمْرِو بن لُحَيٍّ وهو يطوف بالبيت وهو يسمعهم يقولون: لبيك لا شريك لك. فقال الشيطان: قل: إلا شريكا هو لك! فأنكر ذلك عمرٌو فقال: لا بأس بذلك، قل: إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك. فقالها عمرٌو فدانت بها العرب، فكانوا يقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك؛ إلا شريكا هو لك.. تملكه وما ملك! فيعترفون في أول تلبيتهم بالتوحيد: لبيك لا شريك لك. فمن هنا حدث الشرك؛ وإلا فإنهم يعترفون بقولهم: لبيك لا شريك لك.
التلبية يَدَّعُون أنها عبادة، وأنها طاعة لله، وأنَّ الله يُحِبُّها، ويُثِيب عليها. ثم ذكروا -أيضا- أن عمرو بن لُحَيٍّ تمثل له مرة الشيطان في بعض القرى في صورة كاهن من الكهنة، فسجع له سَجْعًا، وقال: ائت إلى جُدَّة تجد بها أصناما مُعَدَّة، ثم ادعُ جميع العرب، إلى عبادتها تُجَبْ. فجاء، فوجد صور أصنام هي على ساحل البحر في جدة فدعا العرب إلى عبادتها.
فكان ذلك أول ما غَيَّر فيه دين إسماعيل وهو أول -أيضا- من سيب السوائب. يعني: جعل في دين إبراهيم هذه السائبة التي أنكرها الله: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ فكان هو -بكونه رئيسا مطاعا في قومه- سبب أنْ حدث بقومه الشرك؛ مع أنهم كانوا قبل ذلك على التوحيد؛ ولهذا ورد في الحديث: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: رأيت عمرو بن لُحَيٍّ يجر قُصُبَهُ في النار ؛ لأنه أول من سيب السوائب، وغير دين إسماعيل.
هكذا أخبر بأنه أول من غير دين إسماعيل الذي كان باقيا في ذريته، بدعوة إبراهيم -عليه السلام–؛ حيث قال: رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي دعا الله أن يكون في ذريته من يقيم الصلاة، وقال : إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أي: واجعل من ذريتي إماما قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ وقال: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ فجنبه الله –تعالى- واستجاب دعوته؛ فبقيت دعوته ودينه في ذريته -ذرية إسماعيل وذرية إسحاق - إلى أن حصل التغيير، فكانوا قرونا طويلة وهم على دين إبراهيم وإسماعيل . فهذا معتقد كثير منهم أخذوه من بقايا دين الأنبياء، كانوا يقرون بتوحيد الربوبية؛ لبقاء آثاره فيهم.
وآخرون أخذوا ذلك عن طريق التعلم والتلقي؛ فإن كثيرا منهم تعلموا عن بقايا الكتب التي عند اليهود والنصارى، فكان من آثار تعلمهم.. أن ساروا على هذه العقيدة التي هي معرفة الله، والإقرار بأنه الرب، وأنه الخالق المتصرف، الذي هو توحيد الربوبية، يعني: أخذوه بالتعلم من الأحبار والرهبان الذين يسافرون إليهم ويلتقون بهم.
وآخرون تلقوا ذلك -أيضا- عن التفكير والتعقل؛ وذلك لأن الله -تعالى- كثيرا ما يلفت الأنظار إلى التفكر في المخلوقات ويجعل فيها عبرة وعظة وآيات لقوم يتفكرون، لقوم يتذكرون، لقوم يعقلون، فإذا تفكر العاقل فإنه ولا بد سوف يجد ما يدله على هذا المعتقد.
ومن ذلك.. ذكر ابن إسحاق المؤرخ أن نفرا من قريش كأنهم نظروا في حالة قريش وما هم عليه؛ فأنكروا ما هم عليه من الديانة فذهبوا يتعلمون، كان منهم زيد بن عمرو بن نفيل وهو ابن عم عمر بن الخطاب عمر بن الخطاب بن نفيل وهذا زيد بن عمرو بن نفيل تعلم وصار على علم، وعرف أن عبادة الأصنام جهل وضلال فاعتزلها، واعتزل ما يذبح لها، فكان لا يأكل من كل ما أهل به لغير الله، وصار يتعبد في المسجد، ويقول: لو أعلم لله عبادة لتعبدت بها، ومات قبل أن يدرك النبي -صلى الله عليه وسلم- وسأل ابنه النبي -صلى الله عليه وسلم- ابنه سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده وقال في رواية ذكرها ابن كثير في التاريخ: قد رأيته في الجنة يسحب ذيولا يعني: أن عليه أكسية يسحبها مما كساه الله –تعالى- في الجنة، مما يدل على أنه ولو كان في عهد الجاهلية؛ فإنه فكر ونظر وتدبر وعرف التوحيد الحقيقي، ودان لله –تعالى- به؛ ولو لم يأت بالأوامر كلها كمثل الصلوات وما أشبهها.

ومنهم ورقة بن نوفل هو أحد النفر الذين تعلموا -أيضا- من اليهود أو من النصارى، وأكثر تعلمه من النصارى، فإنه بذل جهدا وسافر وتنقل، ثم تعلم اللغة السريانية، ثم تعلم -أيضا- اللغة العبرية، ثم كان يكتب من الإنجيل بالعربية يترجمه بالعربية، يكتب ما شاء أن يكتب، ولما بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- كان في ذلك الوقت شيخا كبيرا قد عمي، ذكر قصته البخاري –رحمه الله- في أول الصحيح وهو ابن عم خديجة لما أن جاء النبي -صلى الله عليه وسلم- إليها بعد أن أتاه الملك في غار حراء ذهبت به إلى ورقة وقالت: اسمع من ابن أخيك. فسأله الذي يرى، فأخبره، فقال: هذا الناموس الذي أنزل على موسى ليتني فيها جذعا، ليتني أكون حيا إذ يخرجك قومك، لم يأت أحد بما جئت به إلا أوذي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا ثم لم ينشب ورقة أن توفي وفتر الوحي.
وقد وردت أحاديث وآثار تدل على أنه أسلم، وأنه مات على الإسلام، ومات على العقيدة، ذكرها ابن إسحاق في السيرة، وذكرها -أيضا- الآجري صاحب الشريعة ، وغيرهم بأسانيدها، مما يدل على أنه عرف التوحيد بما تعلمه من بقايا الأمم من بني إسرائيل ونحوهم .

وكان في الجاهلية -أيضا- أحد الفصحاء، وهو الذي يقال له: قس بن ساعدة هو جاهلي؛ ومع ذلك فإنه بتفكيره أو بدراسته وتعلمه عرف التوحيد، وفي خطبته المشهورة ما يدل على ذلك، وكذلك في أبياته، فقوله في الخطبة:
أيها الناس: اسمعوا وعوا، وإذا وعيتم فانتفعوا، إنه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت، مطر ونبات، وأرزاق وأقوات، وجموع وأشتات، وإخوان وأخوات، وآيات بعد آيات، وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا، وإن في الأرض لعبرا، ليل داج، ونهار ساج، وسماء ذات أبراج، وبحار ذات أمواج، أقسم قس قسما أن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه، ونبي قد حان خروجه وأجله، ثم أنشأ يقول :
فــي الـذاهــبـيـن الأوَّلِـيـ
ـنَ مـن القُـرُونِ لنـا بَصَـائـر
لـمــا رأيــت مَـــــوَارِدا
للقــوم لـيس لـهـا مَصَــادِر
ورأيــت قــومـي نحـوهــا
يسـعـى الأصــاغر والأكـابـر
أَقـســمـت أنــي لا مَـحَــا
لَـةَ حـيثُ صـار القـومُ صـائـر
فــي الـذاهــبـيـن الأوَّلِـيـ
ـنَ مـن القُـرُونِ لنـا بَصَـائـر

يعني: عبرة في الأمم السابقة.
لـمــا رأيــت مَـــــوَارِدا
للقــوم لـيس لـهـا مَصَــادِر
وهي الموت.
ورأيــت قــومـي نحـوهــا
يسـعـى الأصــاغر والأكـابـر
لا يـرجـع الـمـاضـي إلــي
ولا مـن البــاقـين غــابــر
أَقـســمـت أنــي لا مَـحَـا
لَـةَ حـيثُ صـار القـومُ صـائر
فقوله : أقسم قس قسما أن لله دينا هو أحب إليه من دينكم الذي أنتم عليه. ذكر أن لله -اعترف بأن لله- دينا، فدل على أنهم عرفوا الدين وهم في الجاهلية.

والحاصل.. أن هذا دليل على أنهم عرفوا العقيدة، وعرفوا توحيد الربوبية.. إما بالتفكير وإما بالتقليد، وإما بالتعلم والأخذ عن أهل الكتاب وغيرهم، وإما بالوراثة من بقايا دين إسماعيل وأنهم ما زال فيهم أو عندهم شيء من بقايا دين إسماعيل.
ثم من ذلك:
أولا: إقرارهم بتوحيد الربوبية.
وثانيا: توحيد الألوهية في حال الشدة -كما سيأتي-.
فذلك دليل على أنهم يعرفون الله، ويقرون بربوبيته، فيقرون بأنه الرب، ويقرون بأنه الذي يخلق ويرزق، وبأنه الذي يدبر الأمور، ويملك الضر والنفع، كل ذلك لله وحده، والقرآن قد دل على ذلك، قال –تعالى- في هذه الآية التي في سورة يونس: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ أفلا تتقون الله وتتذكرون وتعقلون؟! الذي يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ -يعني- بإنزال المطر هو الله، يعني -هنا- أن ذلك من الله –تعالى- وحده؛ وحتى الأمم السابقة قوم عاد الذين أُرْسِل إليهم هود وكانوا يسكنون في الأحقاف من بلاد حضرموت لما أن الله -تعالى- أرسل إليهم هودا وامتنعوا من تصديقه، أصابهم القحط، وبقوا سنوات وهم مُمْحِلُون، فأرسلوا وفدا إلى مكة يستسقون، يقولون: اذهبوا إلى مكة واستغيثوا واستسقوا لنا؛ حتى يرحمنا الله، فأقام ذلك الوفد في مكة ضيوفا عند أحد أقاربهم ونسوا وصية قومهم، ثم إن صاحب المنزل نظم أبياتا يذكرهم بقومهم، وهي التي يقول فيها:
ألا يـا قيـل ويحـك قـم فهـيمـن
لعـل اللـه يسـقـينـا غمامـا
فـتسـقـى أرض عـاد إنَّ عــادا
قـد أمسـوا لا يبينـون الكلامـا
مـن العطش الشـديد فليس نرجـو
بـه الشـيخ الكبـير ولا الغلامـا

إلى آخرها..
فقوله: لعل الله يسقينا غماما، وفي رواية: لعل الله يصبحنا غماما اعترفوا بأن الله هو الذي يسقي، وأنهم أرسلوا وافدهم هذا الذي هو رئيس الوفد ويقال له: قيل
ألا يا قيل ويحك قم فهيمن.
أي: والهيمنة هي الدعاء الخفي.
فدل على أنهم يعرفون الله، ويعرفون بأنه هو الذي يرسل السحاب ويسقيهم؛ ولكن أرسل الله إليهم سحابة سوداء، فلما رأوها قالوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا فرحوا، وظنوا أن فيه مطرهم، قال الله: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ فدل على أنهم يطلبون من الله، لا يطلبون من غيره.
فهكذا أيضا قريش كانوا يعترفون بالله؛ لما أنهم كذبوا النبي -صلى الله عليه وسلم- دعا عليهم بسبع كسبع يوسف أي: بسبع سنين مثل السبع التي أصابت أهل مصر في زمن يوسف في قوله تعالى: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ أخذتهم سنة -يعني قحط-؛ حتى أكلوا فيها الجلود -يعني من الجهد- فجاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- يسألونه بالله، ويذكرونه بالرحم أن يدعو الله، نزل في ذلك قوله تعالى : فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ ؛ وذلك لأنهم لما أجدبوا كان أحدهم يرى كأن بينه وبين السماء دخانا يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ثم يقولون: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ قال الله: إِنَّا كَاشِفُوا الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ فكشف الله عليهم العذاب فعادوا، عادوا إلى ما كانوا عليه من الشرك ومن التكذيب، هذا -أيضا-دليل على أنهم كانوا يعرفون الله، ويعرفون أنه هو الذي يرزقهم، الرزق من السماء بالغيث وبالمطر الذي يمطر من السماء، والرزق من الأرض هو بالنبات، يعرفون أن الله هو الذي جعل هذه الأرض رطبة تنبت؛ ولو شاء لجعلها حجرية لا تنبت.
كذلك يعترفون بأنه الذي يملك السمع والأبصار، يقول الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ إذا ذهب السمع أذهب الله –تعالى- السمع فهل أحد يقدر على أن يرده كما كان؟ لا يقدر. تعرفون هؤلاء الصُّم سبب الصمم أنهم فقدوا السمع، ولا حيلة في رد السمع. وكذلك البصر إذا ذهب البصر، وانطفأت هذه العين وذهب ماؤها وذهب بصرها لم يستطع أحد أن يرد إليها بصرها؛ ولو حاول من حاول.
ذكر بعض المفسرين منهم السيوطي أو المحلي صاحب تفسير الجلالين: أن رجلا قرأ قول الله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ فقال ذلك المخدوع: تأتي به الفئوس والمساحي، يعني: أننا سوف نحفر إلى أن يصل الماء في أقصى الأرض، يقول: فأصبح وقد غار ماء عينه. عينه لا تبصر إلا إذا كان فيهما هذا الماء الذي خلقه الله ليحفظ العينين، فقيل له –نعوذ بالله–: رد هذا الماء، أصبح ماء عينيك غائرا. فعرف بذلك أنه أصيب، عاقبه الله –تعالي- بهذا الذنب -والعياذ بالله- إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا وهكذا أثر هذا الاستهزاء؛ لما أنه سخر بآيات الله –تعالى-.
كذلك يقول: وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ في تفسير هذا عدة أقوال: قيل: يخرج النبات من الأرض، النبات حي ينمو والأرض ميتة، كما في قوله تعالى: وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ الثمر ميت؛ لأنه لا يتنامى، يخرجه من الحي -يعني- من الشجر الذي يتنامى. هذا تفسير، وقيل: يخرج الحي -أي- يخرج الفرخ من البيض، البيض ميت لا حركة فيه؛ فيخرج منه طائر حي سميع بصير، تقلب البيضة ليس فيها حركة، وليس فيها أية حياة، ثم تحتضنها الدجاجة أو الطائر أو نحو ذلك، فبعد ذلك يتغذى فيها فرخ ثم يخرج حيا، يخرج الميت -أي- هذه البيضة، من الحي -أي- من الطائر، ويخرج الطائر من البيض؛ فيكون ذلك حيا من ميت، وميتا من حي.
ومنهم من حمل ذلك على الحياة المعنوية، يخرج الحي المسلم من الميت الكافر، ويخرج الميت -يعني- الكافر من المسلم، يعني: يكون هناك مسلمون لهم أولاد كفار، وكفار يلدون مسلمين، فتكون الحياة -هنا- حياة العقل وحياة الدين، والموت موت القلوب وموت الأديان. وقوله : وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أي: من الذي يسخر هذه الأمور؟ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ وسيعترفون، تدبير الأمور –أيضا- لله وحده، يعترفون بأن الله هو الذي خلق هذه الأفلاك ركبها في السماء، هو الذي يدبر الأمر، فهو الذي يسير النجوم، ويسير الشمس والقمر، ويسخر الليل والنهار، ويرسل السحب وينشئها وينزل منها المطر، كل ذلك يعترفون به، يعترفون بأن ذلك بتدبير الله -سبحانه وتعالى- فدل على أنهم مقرون بذلك، وهذا أمر فطري -يعني- لعلهم تلقوه من الفطرة.
فمثلا في الحديث قوله -صلى الله عليه وسلم- كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه يعني: يغيرانه عن الفطرة، فإذا بقي على الفطرة فإنه يبقى على الدين الحنيف، وأما إذا غيره مجتمعه فإنه يتغير، وينصرف إلى دين آخر، دليل ذلك قول الله تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ فالحاصل.. أنهم- يعني أهل جزيرة العرب - كانوا على معرفة بأن الله –تعالى- هو الذي خلقهم، وهو الذي يدبر الأمور.
يدل على ذلك -أيضا- آيات أخرى منها: قوله تعالى في سورة المؤمنون: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ يعني: لمن مُلك الأرض، ومُلك جميع من فيها، أخبروني إذا كنتم تعلمون؟! سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ يعترفون بأن السماوات السبع، ويعترفون بالعرش الذي فوق السماوات، ويعترفون بأن ذلك لله وحده، بأن الله –تعالى- هو الرب، هذا دليل على أنهم يعترفون بتوحيد الربوبية رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ أي: سيقولون الله –تعالى- هو ربه قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ -يعني- تعبدونه وتتقون سخطه وتتقون عذابه وأنتم تعلمون أنه هو الرب، هو رب هذه المخلوقات قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ بيده ملكوت كل شيء، والمتصرف في جميع الأشياء، الملك بيده والحمد له، يعني: ملك السماوات وملك الأرض وملك الرياح وملك السحب وملك النجوم والأفلاك والشمس والقمر والدواب والأشجار والمخلوقات مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ هوالذي يجير من استجار به، ولا أحد يجير منه، ولا أحد يقي من عذابه، إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ فكيف تصرفون عن عبادته وأنتم تعترفون بأنه هو رب هذه الأمور كلها وهذه المخلوقات كلها، وتعترفون بأنه رب العرش العظيم؟!
ومن الآيات قول الله –تعالى- في سورة العنكبوت: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ من خلق السماوات؟ ومن خلق الأرض؟ ومن سخر الشمس والقمر؟ سيرهما فهما مسخران، كما في قوله تعالى: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي أي: جاريين يسيران كما شاء الله، من الذي خلق هذه المخلوقات وسخر هذه المسخرات؟! سَيَقُولُونَ لِلَّهِ فسيقولون لله، يعترفون بأن ذلك لله وحده. ثم قال في الآية بعدها: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ يعترفون بأن الله هو الذي ينزل المطر، وأنه يحيي الأرض بعد موتها، لا يشركه في ذلك غيره، هذا دليل على أنهم يعترفون بذلك كله لله وحده.
وقال تعالى في سورة الزمر: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ يعني: إذا عرفتم بأن الله هو الذي خلق السماوات والأرض، فهذه المعبودات التي أنتم تعبدونها، أخبروني إذا أراد الله علي ضرا هل تكشف ضري؟ هل تكشف ضركم؟ وإذا أرادني برحمة هل تمنع هذه الرحمة؟ لا تمنعها؛ وذلك لأنها جماد، أو لأنها أموات فلا تملك شيئا؛ ذلك دليل على أن الذي ينفع والذي يملك ذلك كله هو الله وحده.
كذلك يقول تعالى في سورة الزخرف: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ثم أخبر بصفاته بقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا إلى آخر الآيات.. فاعترفوا بأن الله هو العزيز العليم، واعترفوا بأن الله هو الذي خلق هذه المخلوقات؛ وذلك دليل على أنهم يعرفون ربهم، ويقول في آخر السورة: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ يعترفون -أيضا- بأن الله هو الذي خلقهم.

line-bottom