إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه لا بأس أن يكتب المسلم اسمه في طرة المصحف (جانبه) مخافة اشتباه مصحفه بغيره، فقد لا يناسبه إلا مصحفه المخصص له، ولا بأس أن يكتب بعض الفوائد على الهوامش كتفسير كلمة أو سبب نزول أو ما أشبه ذلك. شريعة الإسلام شريعة واسعة كاملة، اشتملت على كل ما تمس إليه حاجة البشر، حاجة الذكور والإناث في الدنيا وفي الآخرة، فذكر الله تعالى نساء الدنيا وجعل لهن أحكاما، وذكر النساء في الآخرة وذكر ثوابهن كثواب الرجال المؤمنين، وفي هذا تمام العدل والحكمة إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية. (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم.
شرح كتاب بهجة قلوب الأبرار لابن السعدي
74347 مشاهدة
حقوق الأخوة

...............................................................................


لا شك أن المؤمنين ربط الله تعالى بينهم بهذه الأخوة، وبهذه الصفة التي هي صفة الإيمان وجعلهم إخوة بقوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ وبقوله تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وبقول النبي -صلى الله عليه وسلم- وكونوا عباد الله إخوانا فإذا كانوا بهذه الصفة؛ يعني إخوة في دين الله تعالى؛ فإن عليهم أن يحسوا بآلام إخوانهم، فيسعوا في تخفيف تلك الآلام، إذا عرفوا أن هناك إخوة لهم في جهة من الجهات يجمعهم وإياهم الدين والإسلام والتوحيد والعقيدة والسنة، وكذلك أيضا يجمعهم الأخوة الدينية الإيمانية فإن عليهم أن يسعوا في تصحيح حالتهم، فإن رأوا أن إخوتهم قد مسهم شيء من الفقر سعوا في تخفيف ذلك عنهم، وإذا مسهم الجوع سعوا في تخفيف ذلك، والتفريج عنهم، وإزالة ما نزل بهم من الشدة والجوع والجهد والعري، وما أشبه ذلك.
وهكذا أيضا إذا أحسوا بأنهم في ضائقة دينية، إذا أحسوا بأنهم في ضيق، وفي شدة فإن عليهم أيضا أن يسعوا في تخفيف ما نزل بهم في تخفيف الآلام التي تصيبهم ويخففوها؛ الألم الحسي أو الألم المعنوي.
فالألم الحسي: كالمرض، إذا مرض أخوك، وعرفت أن لك حيلة في علاجه، أو في التوسط له حتى يعالج ويشفى من هذا المرض الذي أضنى جسده، وآلمه فإنك مطالب بأن تسعى في تخفيف ذلك عنه، وكذلك أيضا إذا عرفت بأنه قد مسه شيء من المرض المعنوي الذي هو حزن مثلا، وضائقة ووسوسة وشدة آلام نفسية وأحزان، وما أشبه ذلك، ولك حيلة أو قدرة على أن تفرج عنه فلا تسلم أخاك.
ولذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره وفي رواية: ولا يسلمه أي لا تسلمه إلى الأعداء، لا تخلي بينه وبين الأعداء الذين يعذبونه، أو يسومونه سوء العذاب، لا تسلمه أي لا تتركه يعاني من الألم والشدة، وأنت تقدر على أن تخفف عنه شيئا من آلامه، وهكذا أيضا إذا أحسست بأنه قد أضره أحد من الأعداء ضررا بدنيا فعليك أن تنصره بقدر ما تستطيعه.
وكذلك تخفيف الآلام عنه الآلام المعنوية؛ وهي تعديه وظلمه ومعصيته وفسقه، عليك أن تنصحه وأن تخلصه من ذلك؛ وهذا معنى ما قال النبي -صلى الله عليه وسلم- انصر أخاك ظالما أو مظلوما جعله أخاك وجعل الاثنين أخويك الظالم والمظلوم، فإذا رأيت هذا ظالما وهذا مظلوما فكل منهم إخوتك، هذا أخوك الظالم وهذا أخوك المظلوم؛ بمعنى أنهم جميعا إخوة لك في الإيمان وفي الدين؛ فعليك أن تنصرهم.
فهذا المظلوم تنصره حتى تخلص حقه من ذلك الظالم، وهذا الظالم تنصره حتى تنصحه وحتى تأخذ على يديه وتمنعه من الظلم وتمنعه من الاعتداء، فإنك إذا أسلمته تركته يخوض في هذه المظالم؛ فيقع في المعاصي ويقع في السيئات ويرتكب الخطايا وتكثر ذنوبه وسيئاته، وأنت قادر على أن تخفف عنه.
ويدخل في ذلك أيضا نصيحته، إذا وقع في ذنب أو ارتكب بدعة؛ ابتدع بدعة أو عمل عملا يخرجه عن الإسلام؛ كمعصية مكفرة وما أشبه ذلك، فإن هذا ونحوه مما يجب أن ينصح عنه المسلم، وأن يحذر من البقاء عليه.
فإذا أحسست بأن أخا لك مثلا قد انحرف، أو تغير نهجه وقع في معصية، وارتكب ذنبا أو صحب ثلة وشلة فاسدة، تخشى أنهم يغيروه ويوقعوه في شباك يصعب أن يتخلص منها، فما واجبه نحوك؟ تحرص على إنقاذه، تحرص على انتشاله من هذه الأوحال التي إذا توغل فيها صعب عليه التخلص، فتنصحه عن صحبة فلان وفلان، وتنصحه عن هذا الذنب الذي فعله، إذا رأيته مثلا ارتكب ذنبا؛ كشرب دخان، أو تعاطي مسكر، أو مخدر أو سماع أغاني أو ما أشبهها، فإن من واجب المسلم أن ينصح إخوته المسلمين، وأن يحرص على إنقاذهم فذلك من تمام الأخوة.
يفهم بعض الناس أن قوله: المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا أن ذلك خاص بالأمور الدنيوية؛ يعني أنك تواسيه وتعطيه وتتصدق عليه، وتنفق عليه وتطعمه وتكسوه، وتفي عنه دينا أو ما أشبه ذلك، هذا بلا شك من حقوق المسلمين على المسلمين.
إذا رأيته في شيء من الشدة والضيق، ولكن مع ذلك عليك أن تنقذه أيضا من المعاصي ومن الشرور ومن أسبابها، فإن ذلك من حق كل المسلم على المسلم؛ إذا عرفت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: انصر أخاك ظالما أو مظلوما. قالوا: أنصره إذا كان مظلوما, فكيف أنصره إذا كان ظالما؟ فقال: تحجزه وتمنعه من الظلم, فذلك نصرك إياه أي تمنعه من الظلم.
قد تعرف أن ذلك المظلوم سوف ينتقم ويخلص حقه، ولكن إذا عرفت الظالم، وعرفت أنه يتقبل منك ويعرف نصيحتك ومودتك له فنصحته وبينت له خطأه، وأنه قد ظلم في هذه القضية، وقد أخذ ما ليس له، وقد تعدى على حق غيره، وقد أساء المعاملة الفلانية فإنه يقبل منك، إذا عرف أنك ناصح وصادق، وإذا خوفته بالله وخوفته بآثار الظلم، وبينت له قول النبي -صلى الله عليه وسلم- الظلم ظلمات يوم القيامة وما أشبه ذلك فلعله أن يرتدع، ولو لم تأخذ على يديه بالقوة.
إن كان لك قوة وقدرة؛ فإنك تأخذ على يديه، ولو أن تقيده وتوثقه؛ إذا كان لك ولاية عليه كابنك أو ابن ابنك أو أخيك أو نحو ذلك؛ وأما إذا لم يكن لك ولاية عليه فإنما عليك أن تحرص على نصيحته، وتحذيره وتخويفه من الله تعالى؛ لعله أن يرتدع، هذا إذا كان ظلمه حق آدمي؛ وذلك لأن حقوق الآدميين مبنية على المشاحة والمضايقة.
وأما إذا كان ظلمه لنفسه؛ بأن ارتكب ذنبا أو فرط في طاعة؛ رأيته مثلا يترك الصلاة في المساجد، أو رأيته يمنع حقا لله واجبا حقا ماليا، أو رأيته مثلا يتساهل في عبادة من عبادات الله كالصيام ونحوه، وكذلك إذا رأيته يرتكب معصية ويصر عليها؛ يسمع الأغاني ويعكف على النظر إلى الصور والأفلام الخليعة وما أشبهها، ورأيته مثلا يتعاطى المسكرات، أو يصحب أهل الشرور وأهل الفساد، أو يسهر ليلا طويلا سهرا يسبب عليه تفويت شيء من صلاة الجماعة، أو ما أشبه ذلك.
وهكذا المعاصي الخاصة التي قد يفعلها ويتأول؛ إذا رأيته يحلق لحيته أو يجر ثيابه؛ يعني يسبل لباسه أو يتكبر على الناس، أو لا يقبل الحق مع وجود من ينصحه، يرد الحق أو يتمسخر بأهل الدين وأهل الصلاح، ويتنقصهم أو يسب ويشتم، يستعمل في كلامه سبابا وهجاء وشتما وقذفا وعيبا ولعنا وكلاما بذيئا تسمعه منه، لا شك أن هذا والحال هذه مما يجب أن تنصره وتنصحه عنه.
كذلك من حقوق المسلمين بعضهم على بعض، إذا بين النبي -صلى الله عليه وسلم- الأخوة بين المسلمين فإن من آثار الأخوة أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه.
وكذلك أيضا من حقوق بعضهم على بعض أن يبتعدوا عن كل شيء يضر بالمسلمين؛ كالأفعال التي نهى عنها في قوله -صلى الله عليه وسلم- لا تدابروا ولا تقاطعوا ولا تهاجروا ولا تحاسدوا ولا تنافسوا ولا تحسسوا ولا تجسسوا ونحو ذلك من هذه الأمور يقتضي أن نتركها؛ لما فيها من الضرر على المسلمين.
فالذي يفعلها يعتبر مذنبا عليك أن تنصحه، وأن تبين له أن هذا من الظلم الذي يبغضه الله تعالى وأنه من الإضرار بالمسلمين، وأن المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، وأن واجبا عليك أيها المسلم أن تعرف حق المسلمين معك، وأن تساعدهم على أمور دينهم ودنياهم، ولا تختص بالمصلحة لنفسك ولا لأهلك، عليك أن تعدل في نفسك وفي أهلك وفيما وليت، وأن توقف كل إنسان من أهلك على حده، وأن تقف أيضا مع إخوتك المسلمين على ما هو الحق وما هو الصواب دون أن تصطفي لنفسك مصلحة، وأنت ترى أن غيرك أحق منك بها، أو أن تفعل ما يجلب إليك منفعة ويضر غيرك من المسلمين؛ كالغش مثلا في المعاملة وكالحسد وما أشبه ذلك.
فكل هذا من آثار الأخوة الدينية؛ ننتبه لمثل ذلك، ونعرف أن الأخوة التي أكدها النبي -صلى الله عليه وسلم- وشبك بين أصابعه، وأخبر بأن المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا أنها تقتضي السعي في تخفيف الآلام عن المسلمين، ونصرهم بعيدين أو قريبين؛ كنصر المجاهدين الذين يجاهدون الكفار في أطراف البلاد، ولو كانوا بعيدين نصرهم بقدر الاستطاعة، وكذلك أيضا القريبين، وأن ذلك أيضا يقتضي التخفيف عن المؤمنين، إذا وقعوا في آلام حسية؛ كالجوع والجهد والعري وما أشبه ذلك، وأن هذا أيضا يقتضي نصيحتهم، إذا وقعوا في معصية أو ارتكبوا مخالفة؛ فإن ذلك كله من حقوق المسلمين بعضهم على بعض.