جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه القلوب أوعية؛ منها ما يستوعب الخير، ومنها ما يستوعب الشر. وأفضل القلوب هي التي تمتلئ بالخير،تمتلئ بالعلم وتمتلئ بالدين والعبادة، تمتلئ بالعلم النافع والعقيدة السليمة، هذه هي القلوب الواعية، وهي أرجى القلوب لتحصيل الخير الإسلام خير الأديان نظافة وآدابا، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتباعه أمرا إلا بينه لهم، حتى آداب قضاء الحاجة وما يتعلق بها من التباعد عن النجاسات ونحو ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم.
شرح كتاب بهجة قلوب الأبرار لابن السعدي
74729 مشاهدة
معنى الشفاعة والدليل على مشروعيتها

...............................................................................


ففي هذا دليل على مشروعية الشفاعة؛ ومعناه إذا جاءك إنسان له حاجة عند آخر؛ حاجة عند موظف، أو حاجة عند تاجر، أو حاجة عند شركة، أو حاجة عند مدرسة، أو نحو ذلك، وهو قد يعجزه أن يقضيها أو لا يستطيع أن يدبرها، وأنت لك وجاهة، ولك منزلة فإن من حقه عليك أن تساعده على ذلك، وأن تشفع له حتى تقضى حاجته، فيكون لك أجر على التخفيف عنه ومساعدته، ولك أجر على نفع إخوتك المسلمين وعلى التخفيف عنهم، وعلى إيصال الخير إليهم ودفع الشر عنهم.
هذه الشفاعة تعم الشفاعة في الأمور الدينية والدنيوية، وتعم الشفاعة في فعل ما ينفع أو في دفع ما يضر؛ وذلك لأن الإنسان المستضعف مثلا؛ قد يقع في مأزمة قد يقع في أزمة شديدة، ويحتاج إلى من يخففها عنه، فيحصل ذلك بشفاعة من يساعده؛ ليشفع له لتخفيف أزمته، وإزالتها فيكون للشافع أجر.
وكذلك أيضا قد يسجن مثلا ظلما؛ فيحتاج إلى من يشفع له حتى تزال عنه هذه المظلمة، وقد يتهم بتهمة هو مظلوم فيها، فيحتاج إلى من يشفع له، وإلى من يسعى في تخليصه من تلك المظلمة التي وقع فيها، والتي أنيطت به واتهم بها ولا صحة لها، فالذين يسعون في إزالة الظلامة عنه لهم أجر على ذلك.
الذين يشفعون هم الذين لهم جاه ولهم مكانة ولهم معرفة؛ إما عند الملوك وإما عند الوزراء، وإما عند التجار والأثرياء وإما عند المدراء أونحوهم، فهؤلاء عليهم حق أن يشفعوا لهؤلاء المستضعفين، ويعتبر ذلك زكاة الجاه, الذي له جاه يزكي هذا الجاه حتى قال بعض الشعراء:
فرض الإله زكاة ما ملكت يدي
وزكاة جاهي أن أعين وأشفع
فالذي له جاه عند أحد الأمراء ونحوهم يشفع لهؤلاء المستضعفين؛ إما في قبولهم في دراسة أو نحوها، وإما بالصدقة عليهم إذا كانوا بحاجة إلى صدقة؛ كفقراء ومساكين ومستضعفين وغارمين ومدينين ومعوزين من ذوي الحاجات.
ويقول مثلا أصحاب المال وأصحاب الثروات: إننا لا نميز بين الصادق والكاذب؛ يأتينا الخلق الكثير، وقد يكون كثيرا منهم ليسوا صادقين ولا محقين، وإنما هم معروف أنهم ذوو حيل يريدون أخذ المال وتحصيله، ونحن لا نميز هذا من هذا.
أما أنت فقد عرفت، وقد تحققت أن هذا الذي استشفع بك صادق في قوله، وأنه محق وأنه من ذوي الحاجة والفاقة، فتأتي إلى هذا المحسن الكريم الذي يثق بك، ويصدق قولك ويعرف نصحك فتقول له: إني أشفع عندك لفلان الذي وقع في شدة، والذي وقع في مصيبة، فهو بحاجة إلى أن تخفف عنه، وإلى أن تفرج عنه ما وقع فيه؛ لا شك أنك والحال هذه قد نفعت أخاك ونفعت المحسن الأخر.
فهذا الذي عنده زيادة ثروة، وعنده مال يحب أن يتصدق على ذوي الحاجات، ولكن لا يميز بين هذا وهذا، فإذا أتيته وأنت تميز قبل قولك، وقبل شفاعتك فكان لك الأجر بهذه الشفاعة، وكان لصاحب المال الأجر بإصابته لمستحقيه، وحصل تخفيف هذه المصيبة.
وهذه الأزمة التي نزلت بهذا المستضعف بواسطتك، فهذا يدعو لك حيث صرفت ماله في مستحقيه، والفقير يدعو لك حيث فرجت عنه ما هو فيه من الشدة، وما هو فيه من المصيبة التي اشتدت به، فيكون لك الأجر مرتين.
فينبغي على المسلم ألا يحقر جاهه، وأن يعين ذوي الحاجات في قضاء حاجاتهم. أما إذا كنت جاهلا، ولا تتحقق من صحة دعوى هذا المدعي فلك أن تعتذر، وأن تقول: أئت غيري ممن يعرفك وممن يثق بصحتك وبصدقك وبصحة دعواك, لك عذر والحال هذه إذا لم تتحقق من صحة مدعاه.
والحاصل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد يكون عارفا بذوي الحاجة، وقادرا على أن يقضي حاجة هذا وهذا، ولكن أحب أن يكون لأصحابه أجر بهذه الشفاعة؛ فكأنه يقول: أنا أقدر على أن أقضي حاجة هذا وأخفف عن هذا، ولكن أريد أن تساهموا أريد أيها الأصحاب أن يكون لكم نصيب من الحسنات وأجر من فعل الخير، وذلك بشفاعتكم فاشفعوا تؤجروا أي تحصلوا على أجر.
فلذلك كانوا يشفعون عنده بل وبعده أيضا يشفعون عند خلفائه، إذا جاء أحدهم صاحب حاجة يريد أن تقضى حاجته؛ إما حاجة دنيوية وإما حاجة دينية، فإنهم يشفعون عند الخلفاء، وقد يكون الخلفاء لا يميزون أكثر الناس، ولا يعرفون صاحب الحاجة الصادق وغير الصادق فيحتاجون إلى من يشفع لهم.
وهكذا أيضا في كل حال في هذه الأزمنة، وفي غيرها ما قبلها وما بعدها؛ لا شك أن مثلا الملوك والوزراء والأمراء والمدراء والمسئولين لا يستطيعون أن يميزوا بين الناس، ولا أن يعرفوا جميع الأشخاص، فإذا كان أحد المقربين عندهم؛ كبوابين أو خداما أو عمالا أو موظفين يعرفون صاحب هذه الحاجة، فشفع عندهم قبلوا شفاعته؛ أولا: معرفتهم بأنه ناصح لهم ولا يكذب عليهم, وثانيا: معرفتهم به شخصيا، وبأنه يتحرى الصدق، وثالثا: حاجتهم إلى قبول شفاعته؛ لأنه محل ثقة عندهم ولأنهم يأمنونه على أسرارهم وعلى أموالهم وأعمالهم، فيقبلون شفاعته.
وهكذا أيضا يقبلون شفاعة من يثقون به، يقبلون شفاعة مثلا القضاة والمعلمين والمدرسين ونحوهم، ويقبلون أيضا شفاعة الوجهاء والمشاهير، يقبلون شفاعتهم في إزالة شدة عن إنسان، أو تخفيف لمصيبة نزلت به، أو تخفيف لحكم شديد وقع فيه، أو لمظلمة أو سجن طال عليه أو ما أشبه ذلك.
فنتواصى بأن نكون من هؤلاء، ورد أثر: أن خير الناس أنفعهم للناس، فالذي عنده قدرة على أن ينفعهم بماله يفعل، والذي يقدر على أن ينفعهم بجاهه يفعل حتى يثاب، وحتى يكون ذلك من باب التعاون على الخير.