الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد
مسألة: في صفات الإحاطة والعلم والقهر
قوله:
أحاط بكل شيء علمًا، وقهر كل مخلوق عزة وحكمًا، ووسع كل شيء رحمة وعلمًا رسم> يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا قرآن> رسم> ( طه:110 ) آية> .
شرح:
الصفة الأولى: الإحاطة هذه أيضا من صفات الكمال، وهي من الدلالة على صفة العلم ونحوه، يقول الله - تعالى - في آخر سورة الطلاق: رسم> وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا قرآن> رسم> ( الطلاق:12 ) آية> والإحاطة في الأصل: هي الاستيلاء على الشيء من كل جهاته، كأنه أُحيط من كل جهاته بحيطان منيعة فاستُولي عليه، ولكن تستعمل بمعنى الإتيان على الشيء من كل جهاته؛ أحطت بهذا يعني: وصلت إلى نهايته، أي: أتيت عليه حتى استوليت عليه وعرفته، وصارت تفاصيله ظاهرة عندي. فالله - تعالى - وصف نفسه بصفة الإحاطة، فقال: رسم> وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ قرآن> رسم> ( البروج:20 ) آية> يعني: محيط بالخلق، أي: مستولٍ عليهم، وكذلك محيط بعلومهم، ومحيط بجميع المخلوقات، وما يحصل منها، وأما المخلوقون فعاجزون عن ذلك إلا بما فتحه الله عليهم، قال تعالى: رسم> وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ قرآن> رسم> ( البقرة:255 ) آية> أي: لا يقدرون على أن يحيطوا بشيء من العلوم التي يعلمها، أو التي يمكن تعلمها إلا بما يشاؤه؛ فلا يعلمون المغيبات الخفية، بل ولا يعلمون البعث وما بعده، والحشر وتفاصيله إلا بما علَّمهم، وبما فتح عليهم ، والحاصل أن الله - تعالى - موصوف بأنه بكل شيء محيط؛ كما أخبر بذلك في عدة آيات: في سورة البروج، وفي سورة فُصِّلت، وفي آخر سورة الطلاق ونحوها ، هذا معنى الإحاطة، ويدخل في ذلك علوم الخلق، أي: أنه عالم بهم وبمعلوماتهم، وكذلك أيضًاأنه مع علمه بها فإنه قد أثبتها ، وهذان يأتيان - إن شاء الله - في الكلام على القدر؛ أن الله علم الأشياء قبل وجودها، ثم كتبها في اللوح المحفوظ حيث رسم> قال الله - تعالى - للقلم: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة رسم> ومعلوم أنه لا يكتب إلا ما أمره الله به، فكل شيء كائن قد سطر في اللوح المحفوظ، فالله قد أحاط بكل شيء علمًا؛ هذه صفة كمال.
الصفة الثانية: العلم، وقوله: (وسع كل شيء رحمة وعلمًا) ، وسع كل شيء رحمة ، ووسع كل شيء علمًا؛ معلوم أن السعة والاتساع والتفسح بمعنى واحد، وسع يعني: امتدَّ علمه إلى ما لا نهاية له، فالله تعالى وسع سمعه الأصوات، ووسع علمه المعلومات والمخلوقات كلها، ووسعت رحمته المخلوقات، يعني: اتسعت رحمته، فرحم الخلق كلهم أولهم وآخرهم، وكذلك اتسع حلمه للخلق كلهم فحلم عنهم كما يشاء ، ومعروف أن هذه الصفات الفعلية كصفة الرحمة، وصفة الحلم مما يثبتها أهل السنة، أما الأشاعرة ونحوهم فينكرون الصفات الفعلية كالرحمة والحلم ونحو ذلك، فمن أسماء الله تعالى: ( الحليم ) وقد ورد في عدة آيات، منها قوله تعالى: رسم> إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا قرآن> رسم> ( الإسراء:44 ) آية> والحليم: هو الذي لا يعجل، الحليم الذي يحلُم عن الخلق، بمعنى: أنه لا يعاقبهم؛ أي يعفو عنهم ولا يعاجلهم بالعقوبة, والحليم من الناس: هو المتأني؛ يقال: فلان معه حِلْم، يعني: تأن في الأمور، وتثبت، وعدم تسرع، وعدم معاجلة بالعقوبة على أية ذنب صغير أو كبير، بل يحلُم عن هذا ، حَلُمْتُ عن فلان لما ظلمني، ولما أساء إليَّ، أنا أحلُم عمن ظلمني؛ لا أستعجل العقوبة لمن أساء إليًّ فالحلم صفة شريفة، وإذا كانت من أفضل الصفات، فالله - تعالى - متصف بكل الصفات التي هي صفات الكمال، هذا هو معنى الحلم.
الصفة الثالثة: القهر, وقوله: وقهر كل مخلوق عزة وحكمًا انظر كيف فرق؛ هناك ( رحمةً وحلمًا ) لمّا ذكر السعة، وهنا ( عزةً وحكمًا ) لما ذكر القهر, القهر: هو القوة والغلبة؛ قهرها يعني: غلبها وقوي عليها، واستولى عليها، وصارت تحت سلطانه وتحت سيطرته، وتحت تصرفه لا تملك لنفسها أي نوع من أنواع التصرف إلا بإذن الله تعالى؛ فهي مخلوقة وذليلة ومهينة، فالله تعالى هو الذي يتصرف فيها كما يشاء ولا يخرج أحد عن قهر الله، وإذا قلت: إن هناك من طغى وبغى ، وهناك من تجبر وعتا ، وهناك من كفر ونفر ، وهناك من تعدى طوره؛ فأين هؤلاء من قهر الله؟ أليسوا مقهورين؟ أليسوا يلينون لعزة الله ويذلون لها؟ أليسوا مهانين؟ أليسوا مملوكين تحت ملك الله تعالى؟ فما هذا الطغيان؟ وما هذا العسف ؟ وما هذا التجبر ؟ وما هذا الظلم الذي صدر منهم؟ وما هذا العتو والعدوان على عباد الله الذي نشاهده من الكفرة ونحوهم؟ أين قهر الخالق تعالى لهم؟ أين إذلاله لهم؟ أين السيطرة عليهم؟ .
الجواب: إن هذا لا ينافي كونه - سبحانه - قاهرًا لكل مخلوق قهرًا قويًّا، وله سبحانه الغلبة والسيطرة على المخلوقات، ولكن تأمل كلامنا السابق عن صفة الحلم وأنه سبحانه وتعالى يحلُم رأس> ولا يعجل، يمهل ولا يهمل، يسمع ويَعلم أفعالهم وتعديهم، ولكنه يمهلهم إلى أجل وإلى حين، فعند ذلك ينتقم منهم، وهو العزيز ذو الانتقام، فلا يغتر الظالم بجبروته، وبقوته وسيطرته، وبما أعطي من القوة؛ فإنه مقهور ومستولى عليه، ولا بد أن يؤخذ الحق منه.
أيحسب الظالم في ظلمه | أهمله القـادر أم أمهـلا |
ما أهملهم بل لهم موعد | لن يجدوا مـن دونه موئلا |
وقال في حديث آخر: رسم> إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب، فإنما هو استدراج، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم: رسم> فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ قرآن> رسم> متن_ح> رسم> ( الأنعام:44 ) آية> وقال تعالى : رسم> سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ قرآن> رسم> ( القلم:44-45 ) آية> فالله - تعالى - يملي لهم ويمهلهم سنوات وعشرات السنين، ولكن إذا أخذهم أخذهم أخذ عزيز مقتدر، فإما أن يبطش بهم، وإما أن يسلط عليهم من هو أقوى منهم؛ إذًا فهذه الصفة صفة صحيحة ثابتة لله تعالى ندين بها، ولا نقول: إن هناك من خرج عن قهر الله، أو خرج عن غلبة الله، ولا أن هناك من اغتر بنفسه وليس لله قدرة عليه، فلله - تعالى - قدرة على الجميع.
فالله - تعالى - قادر على كل شيء، وكل الخلق تحت تصرفه، وفي قبضته، وينتقم منهم إذا شاء، ويسلط عليهم من ينتقم منهم، أو يعمهم بالعقوبة؛ إذًا فلا يغتروا بالإمهال.
يا أيها الظالم في فعله، يا مَن تماديت واعتقدت أنك من الناجين، لا تغتر بذلك؛ فالظلم مردود على من ظلم، والله - تعالى - ينتقم من الظالم ويأخذه أخذ عزيز مقتدر، هذا معنى قوله: قهر كل مخلوق عزة وحكما .
قوله تعالى: رسم> يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا قرآن> رسم> ( طه:110 ) آية> هذه الآية مشتملة أيضًا على صفة من الصفات الفعلية الذاتية، فإن العلم صفة ذاتية فعلية بمعنى: أن الله لا يمكن أن يتصف بفقد العلم، فالعلم صفة ذاتية لله تعالى.
قال سبحانه: رسم> مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ قرآن> رسم> ( الحديد: 22 ) آية> معرفة ذلك سهلة يسيرة على الله تعالى، كذلك قال تعالى: رسم> يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ قرآن> رسم> في عدة آيات, وقد فسر قوله: ( ما بين أيديهم ): بأنه ما قد ملكوه، ( وما خلفهم ): ما سوف يحصلون عليه ويتملكون عليه، وفسر ( ما بين أيديهم ) يعني: الخلق الذين قد مضوا، ( وما خلفهم ): الذين سوف يخلقون فيما بعد، وفسر ( ما بين أيديهم ) يعني: ما أمامهم مما يشاهدونه، ( وما خلفهم ) أي: ما وراء ظهورهم مما لا يشاهدونه.
والأقرب أن الآية عامة، وأما الأصل، فإن الله يعلم ما قبلهم وما بعدهم، ويعلم ما أحاطوا به الآن، وما سوف يعلمونه فيما بعد، يعلم ذلك كله، قوله: ( ولا يحيطون به علمًا ) أي: لا يعلمون علمًا يقينيًّا بذات الله تعالى، أي: لا يعلمون علم الرب، وإنما يعلمون من صفاته ما أطلعهم عليه، هذا هو الأصل.
مسألة>