الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد
تعريف الحمد والفرق بينه وبين المدح وبيان أن الله محمود بكل لسان
(الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن، جل عن الأشباه والأنداد، وتنزه عن الصاحبة والأولاد، ونفذ حكمه في جميع العباد، لا تمثله العقول بالتفكير، ولا تتوهمه القلوب بالتصوير رسم> فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ قرآن> رسم> ( الشورى:11 )، آية> له الأسماء الحسنى والصفات العلى رأس> رسم> الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى قرآن> رسم> ( طه:5-7 ). آية>
شرح:
نبدأ في شرح هذه المقدمة ثم ما بعدها، فقد ذكرنا في مقدمة الشرح سبب تأليفه لها، وهو أنه فقيه أشغل وقته في الفقه، ويظهر ذلك في مؤلفاته، ولكن لم يمنعه اشتغاله بالفقه أن يكتب في العقيدة، فألف فيها عدة مؤلفات، ولكنها نبذ صغيرة، وهو أبو محمد عبد الله بن محمد بن قدامة اسم> المقدسي الحنبلي رحمه الله، صاحب المؤلفات في الفقه؛ كـ ( المغني )، و( الكافي )، و( المقنع )، و( العمدة )، و( الروضة )، وغيرها من المؤلفات.
يقول في هذه المقدمة: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله المحمود بكل لسان، المعبود في كل زمان، الذي لا يخلو من علمه مكان، ولا يشغله شأن عن شأن .
أولا : ابتدأ كغيره بالبسملة اقتداءً بالكتاب العزيز، حيث بدئ بالبسملة، وبدئ بالحمد لله وعملا بالحديث المشهور: رسم> كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بباسم الله - وفي رواية - بالحمد لله، فهو أبتر - أو ( أقطع )، أو ( أجذم ) متن_ح> رسم> والمعنى أنه ناقص البركة.
يذكر المؤلفون هذا الحديث في مقدمات شروحهم كما ذكره البهوتي اسم> في مقدمة شرحه على ( زاد المستقنع )، وشرحه على الإقناع، وشرحه على المنتهى، وغيره, ثم بعد ذلك ابتدأ بالحمد لله.
والحمد في اللغة : الثناء على الإنسان؛ كالثناء عليه بخصاله الحميدة، وبعقله، وبديانته، وبأمانته، وبكرمه، وبجوده، وبحلمه، وبصفحه، وبصدقه، يعني: بالخصال التي يحمد عليها، التي يبالغ في الثناء عليه لأجلها، فهذا الثناء يسمى حمدًا.
فإذا أثنى عليه بأشياء لا صنع له فيها كما لو أثنى عليه بأنه جميل، أو طويل، أو قصير، أو لجمال صورته، وطول قامته، وفصاحته، وذكائه ونحو ذلك، فهذا الثناء يسمى مدحًا .
والفرق بين المدح والحمد:
الحمد: الثناء بالصفات التي تخلَّق بها، كالصدق، والأمانة، والعلم، والحلم، وما أشبهها.
وأما المدح : فهو الثناء عليه بالصفات التي جُبل عليها، ولا صنع له فيها كالجَمال، والطول، والخلقة، وما أشبه ذلك.
فالله - تعالى - يُثنَى عليه بكل الصفات ، فيثنى عليه بصفات الكمال، وبصفات الجمال، وبصفات الأفعال. فيستحق أن يثنى عليه بكل الصفات، فهو أهل للحمد، وهو المستحق له، ولأجل ذلك حمد نفسه في كثير من السور كالفاتحة، وسورة الأنعام، وسورة الكهف، وسورة سبأ، وسورة فاطر، ابتدأها الله بالحمد لله رب العالمين.
وكذلك أخبر بأنه المستحق للحمد، وبأنه يُثنى عليه بالحمد في قوله تعالى: رسم> وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قرآن> رسم> ( الزمر:75 ) آية> رسم> وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قرآن> رسم> ( يونس:10 ) آية> وغير ذلك ، وكثرة ذكر الحمد دليل على أنه ذكرٌ يذكر به الله، ويمدح به، ويثنى عليه به، وأنه يحبه ويحب مَن يحمده، ويحب من يثني عليه ويثيبهم على ذلك، وأنه أهل للحمد وأهل للثناء.
أما تعريف الحمد في الاصطلاح: فذُكر له تعريفان:
التعريف الأول : إن الحمد فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعمًا على الحامد وغيره، وهذا كأنه يختص بحمد المنعم، يعني: لا يحمد إلا بسبب كونه منعمًا، وأن الحمد فعلٌ ينبئ عن تعظيمه.
ولا شك أنه مستحق للتعظيم، ولا شك أن الحمد تعظيم، ولكن الصحيح أن الله - تعالى - يُحمد على كل حال، يحمد على الخير، ويحمد على الضرر، وذلك أنه إنما يسلط الضرر والشر أو البلاء لحِكَمٍ هو أعلم بها، فلأجل ذلك يحمد على الخير، ويحمد على الشر.
ولا يحمد على الشر سواه، وذلك أنه لا يبتلي بالشر كالمصائب والآفات والفقر والأذى والأمراض ونحوها، إلا لحكم ومصالح؛ فلأجل ذلك تحمده إذا أصابك مرض وألم، وإن أصابك فقر أو أذى فإنك تحمده على ذلك، وإن أصابك سجن أو جلدٌ أو أذى من خلق يسلطهم الله عليك فإنك تحمد الله على ذلك.
وإن كان ذلك لا يستدعي الفرح بذلك، ولا الرضا به، وبكل حال فهذا يبين أن في هذا التعريف شيء من الخلل وهو قولهم: إنه فعل ينبئ عن تعظيم المنعم بسبب كونه منعمًا على الحامد، وغيره، فالله - تعالى - يعظَّم لكونه منعمًا، ولكونه مبتليًا.
التعريف الثاني للحمد: أن الحمد ذكر محاسن المحمود مع حبه وتعظيمه وإجلاله. رأس>
ولعل هذا التعريف أسلم، ولكن الحمد لا يستلزم أن تذكر المحاسن كلها، ولكن إنما يحمد حمدًا مطلقًا، فتقول: الحمد لله، ولو لم تذكر محاسنه التي حمدته عليها، فقولهم: ذكر محاسن المحمود، كأنهم يقولون: إن ذلك على وجه الإجمال، نحمده أي: نذكر محاسنه سواء بالقلب أو باللسان، فمثلا في أول سورة الفاتحة ابتدأها الله بقوله تعالى: رسم> الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قرآن> رسم> ( الفاتحة:2 ) آية> هذا من محاسنه رسم> الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قرآن> رسم> ( الفاتحة:3 ) آية> هذا من محاسنه رسم> مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قرآن> رسم> ( الفاتحة:4 ) آية> هذا من محاسنه، وكذلك في سورة الأنعام: رسم> الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قرآن> رسم> ( الأنعام:1 ) آية> هذا من محاسنه، وفي أول سورة الكهف رسم> الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ قرآن> رسم> ( الكهف:1 ) آية> هذا من محاسنه، رسم> وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا قرآن> رسم> ( الكهف:1 ) آية> هذا من محاسنه، وأشباه ذلك.
والحمد: هو ذكر محاسن المحمود وذكر فضائله، وذكر صفاته الحميدة مع حبه وتعظيمه وإجلاله، أي: إن الحمد يستدعي من الحامد هذه الثلاثة: الحب، والتعظيم، والإجلال.
فهذان التعريفان اصطلاحيان للحمد، ولا شك أنه - سبحانه - أهل الحمد كما شرع ذلك في الصلاة، فالمصلي إذا رفع من الركوع يقول الإمام: سمع الله لمن حمده، والمأمومون والإمام كلهم يحمدون الله، ويقولون: رسم> ربنا ولك الحمد ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعد متن_ح> رسم> وفي بعض الروايات رسم> اللهم ربنا لك الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهل الثناء والمجد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد رسم> كل ذلك في صفة الحمد.
ولا شك أن العبد إذا حمد الله ، كان قد عبده بهذه الكلمة الحمد لله، واجتمع كونه معظمًا له، ومحبًّا، ومجلا له بهذه الكلمة، فقد أدى عبادة، وأي عبادة، وإن كان للحمد أيضًا أسباب كما إذا تجددت نعمة فإنك تحمده عليها، ونعم الله تجدد بالغدو والآصال كما في قوله صلى الله عليه وسلم : رسم> إن الله ليرضى عن العبد يأكل الأكلة فيحمده عليها ويشرب الشربة فيحمده عليها متن_ح> رسم> وأينا يستغني عن الأكل والشرب في اليوم عدة مرات، إذن فإذا تجددت هذه النعمة ، فإنك تحمده عليها.
كذلك أيضا تقول بعد الفراغ من التخلي: رسم> الحمد لله الذي أذاقني لذته، وأبقى في منفعته، وأذهب عني أذاه رسم> أو بعد الخروج من الخلاء فتقول: رسم> الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني متن_ح> رسم> فلا يستغني الإنسان أن يحمد الله في كل الحالات ، إذًا فالله تعالى محمود دائمًا: إما بلسان الحال، وإما بلسان المقال.
وقوله: الحمد لله المحمود بكل لسان ، قد تقول: كيف يكون ذلك مع أن كثيرًا من الألسن لا يعرفون الله، أولا يعترفون بفضله فضلا عن أن يحمدوه؟
والجواب: إن الألسن ناطقة بحمده إما بلسان الحال، وإما بلسان المقال، فألسنة الكفرة ولو كانت لا تذكر الله، ولو كانوا ينسبون النعم إلى غير الله، ولو كانوا يكفرون به وبنعمه، ولو كانوا يصرفون العبادة لغيره، ولكن لسان حال أحدهم معترف بأنه محتاج إلى رب، وأنه لا يستغني عنه طرفة عين ، لسان حال أحدهم معترف بأنه مخلوق مفتقر إلى الخالق، وذلك الخالق له الفضل عليه، فلا بد أن يكون صاحب الفضل أهلا أن يثنى عليه، وأهلا أن يحمد إذًا، فهو حامد بلسان حاله شاء أم أبى.
فهذا دليل على أن الله تعالى : محمود بكل لسان، من لسان حال، أو لسان مقال، وقد ذكر الله - تعالى - أن جميع المخلوقات ذليلة له كما في قوله تعالى: رسم> يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ قرآن> رسم> ( الجمعة:1 ) آية> رسم> وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ قرآن> رسم> ( النحل:49 ) آية> رسم> أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ قرآن> رسم> ( الحج:18 ) آية> إلى آخر آيات السجود.
والتسبيح لا شك أنه عبادة، وأنها قطعية الحصول، ولو كرهاً، ولهذا قال تعالى في آية الرعد رسم> وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ قرآن> رسم> ( الرعد:15 ) آية> يعني وإن لم يسجدوا فإنه يسجد ظلالهم، إذا فهم يعترفون شاءوا أم أبوا بأنهم خاضعون وذليلون لله تعالى.
مسألة>