الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد
مسألة: رؤية المؤمنين لربهم في الآخرة
قوله:
( والمؤمنون يرون ربهم في الآخرة بأبصارهم، رأس> ويزورونه، ويُكلمهم، ويُكلمونه، قال الله تعالى: رسم> وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ قرآن> رسم> [ القيامة:22-23 ] آية> وقال تعالى: رسم> كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ قرآن> رسم> [ المطففين:15 ] آية> فلما حجب أولئك في حال السخط دل على أن المؤمنين يرونه في حال الرضى، وإلا لم يكن بينهما فرق . )
شرح:
هذا ابتداء في مسألة النظر إلى وجه الله، ورؤية الله تعالى، وهي أيضًا من المسائل المهمة التي تكلم فيها أهل السنة، وأثبتوها بالأدلة، وخالف فيها المعتزلة خلافًا صريحًا، وخالف فيها الأشاعرة خلافًا معنويًّا، وهدى الله أهل السنة لقبولها، ولم يلزمهم محذور من إثباتها ، والحمد لله.
أولاً: قد اختلفوا: هل يمكن النظر إلى الله تعالى في الدنيا، وهل رآه النبي صلى الله عليه وسلم؟
والصحيح أنه لا يمكن لأحد من البشر أن يرى ربه في الدنيا، ولأجل ذلك لم يتمكن موسى اسم> من النظر إلى ربه بعد أن سأل النظر، وأخبره الله بعدم التمكن من ذلك، والدليل قوله تعالى: رسم> وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ قرآن> رسم> ( الأعراف:143 ) آية> .
فهذا دليل على أن البشر لضعف خلقتهم في الدنيا لا يتمكنون من رؤية الله تعالى، والصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: لم يره رؤية بصرية في الدنيا، ودليل ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لما قيل له: هل رأيت ربك ؟: رسم> نورٌ أنَّى أراه متن_ح> رسم> يعني: كيف أراه ودونه ذلك النور، وكذلك في رواية ( رأيت نورًا )؛ وذلك لأن الله تعالى احتجب عن عباده بالنور.
وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: رسم> حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه متن_ح> رسم> فالصحيح أنه رآه رؤية قلبية لا رؤية بصرية، والذين أثبتوا الرؤية له استدلوا بقوله تعالى: رسم> وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى قرآن> رسم> ( النجم:13-14 ) آية> والصحيح أن الضمير يعود إلى جبريل اسم> ؛ أي: ولقد رأى جبريل اسم> نزلة أخرى، وكذلك قوله رسم> وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ قرآن> رسم> ( التكوير:23 ) آية> الضمير أيضًا يعود إلى جبريل اسم> عليه السلام، فإنه الرسول المذكور في قوله تعالى: رسم> إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ قرآن> رسم> ( التكوير:19-21 ) آية> هذه صفات الملك، فالضمير يعود إليه.
وقد ثبت أنه - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنه رأى جبريل اسم> على صورته التي خُلق عليها مرتين له ستمائة جناح، قد سد ما بين الأفق، أو قد سد الأفق وكان ينزل عليه كثيرًا، ولكنه يتمثل بصورة دحية الكلبي اسم> أو نحوه.
وعلى كل حال؛ فإن الرؤية في الدنيا لا دليل عليها، وقد خالف في ذلك المتصوفة، وادعوا أن الأولياء يرون الله عيانًا، وأنه يعرج بأرواحهم، وأن أرواحهم تتمكن من النظر إلى ربها، ولأجل ذلك فضَّلوا أولياءهم وسادتهم على الأنبياء بل وعلى الرسل، وعلى الملائكة، وهذا من شطحاتهم ، هذا بالنسبة إلى الرؤية في الدنيا.
وأما الرؤية في الآخرة؛ فأثبتها أهل السنة ، وأنها رؤية صحيحة ، وأن المؤمنين في الجنة يرون الله تعالى، ويزورونه، ويُكلمهم ويُكلمونه، بل ثبت في السنة وفي الأحاديث أن رؤية الله - تعالى - في الجنة للمؤمنين هي أعظم لذة لهم، وأعظم نعيم، وأعظم سرور يصل إليهم يبهج نفوسهم، وتستنير وتضيء به وجوههم، ويكتسبون أعظم لذة بحيث أنهم لا يلتفتون إلى شيء ما داموا ينظرون إلى ربهم، ويغفلون عن كل نعيم كانوا فيه، فلا ينظرون إلا إلى ربهم حتى يحتجب عنهم، هذا من أعظم لذة لهم، يقول بعض العلماء ولو كان مثالا دنيويًّا:
فلو أني استطعتُ غضضتُ طرفِي | فلـم أنظـر بـه حتـى أراكــا |
وقد تقدمت الآية التي أوردها الموفق اسم> رحمه الله، وهي قوله تعالى: رسم> كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ قرآن> رسم> ( المطففين: 14-16 ) آية> وصفهم بهذه الصفة؛ أنهم محجوبون عن ربهم، والحجب هو الحيلولة بينهم وبين ربهم، فلا ينظرون إليه ولا يرونه، ولا يتمتعون برؤيته، ويا لها من عقوبة تصل إليهم، أنهم محجوبون عن ربهم، وذلك أشد العذاب .
فكل من حُجب عن رؤية ربه فإنه معذَّب، فحجبه عن ربه عذاب له وأي عذاب ، وقد استدل بهذه الآية الشافعي اسم> رحمه الله، وهو أشهر من استنبط منها رؤية المؤمنين لربهم .
وحيث ثبت أن الكفار محجوبون عن ربهم، فإنه يدل على أن المؤمنين من أهل الجنة غير محجوبين عن ربهم، بل يرونه، فلو كان لا يراه أحد لم يكن هناك فرق بين المؤمنين والكفار ، ولكان الجميع كلهم محجوبين عن ربهم ، فالحجاب هو أن يكون بينهم وبينه حاجب ، وحاجز لا يرونه، فإذا كان هؤلاء يرونه كانوا غير محجوبين ، وهؤلاء لا يرونه فهم المحجوبون ، وهذا دليل واضح.
مسألة>