جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر.       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. يجوز أن يعلم القبر بعلامات يعرف بها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم لما دفن عثمان بن مظعون جعل عند قبره حجرا وقال: "أعرف به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي". فيجوز أن يجعل علامة كحجر أو لبنة أو خشبة أو حديدة أو نحو ذلك، ليميز بها القبر عن غيره حتى يزوره ويعرفه.أما أن يكتب عليه فلا يجوز؛ لأنه قد نهي أن يكتب على القبور حتى ولو اسمه، وكذلك نهي أن يرفع رفعا زائدا عن غيره.
الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد
82066 مشاهدة
آيات صفة اليد

وقوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [ المائدة:64 ] . )


ثم الآية الثانية قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ( المائدة:64 ) فيها إثبات صفة اليدين وهي أيضا صفة ذاتية، ذكرها الله - تعالى - بالتثنية في هذا الموضع، وذكرها بالتثنية في موضع آخر في قوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ( ص:75 ) وذكرها بصفة الجمع، ولكن مع ضمير الجمع في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا ( يس:71 ) وبصفة الإفراد في قوله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ( تبارك:1 ) بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( آل عمران: 26 ) وذكرها بلفظ يمين في قوله تعالى: وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ( الزمر:67 ) هذا في القرآن.
   والسنة المتواترة التي فيها ذكر اليد أو اليدين، أو نحو ذلك كثيرة، وكثيرًا ما يحلف النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: والذي نفسي بيده في عشرات الأحاديث، وفي الحديث صلى الله عليه وسلم قوله: ناصيتي بيدك كذلك قوله صلى الله عليه وسلم: إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين .
وهكذا في قوله صلى الله عليه وسلم: يمين الرحمن ملأى سحاء -إلى أن قال- وبيده الأخرى الميزان يخفض ويرفع وذكر قبضه للمخلوقات فقال صلى الله عليه وسلم: يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض ؟ وفي رواية: ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟، ثم يطوي الأرضين بشماله، ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ .
والأحاديث كثيرة في ذلك، وأورد كثيرًا منها ابن كثير عند تفسير قوله تعالى: وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ( الزمر:67 ) مما يدل على ثبوت هذه الصفة، والطريق فيها أيضًا الطريق في سائر الصفات؛ وهو أن نثبت لله  - تعالى - يدًا كما أثبت لنفسه ولكن لا نبالغ فنقول: إنها كأيدي المخلوقين.
وورد في بعض الأحاديث ذكر الأصابع: إن الله يجعل السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع، والشجر على إصبع، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلائق على أصبع، فيقول ... الحديث,    فنقتصر أيضًا على ذلك، ولا نقول: إن هذا مشابه لصفات المخلوقين، ولا نقول: إن هذا ضرب مثل؛ كما يقوله النفاة الذين ينكرون هذه الصفات، ويجعلونها أمثلة لهيبة المقام، ويقولون: ذكر اليمين، وذكر القبضة، وذكر هز السماوات، وهز الأرض إنما هو لتهويل المكان ولتهويل الأمر، ولجلب الفزع والخوف في القلوب، ولاهتمام الناس بهول ذلك اليوم، وإلا فليس هناك قبض وليس هناك هز، وليس هناك يمين ولا غيرها، هكذا رأيت في تفسير كثير من الأشاعرة ونحوهم الذين ينكرون هذه الصفات.
ولا شك أن هذا رد للأدلة الواضحة، وتكلف في ردها، ومعلوم أن نبي الله صلى الله عليه وسلم فصيح، يقدر على أن يوضح للناس ما يهمهم وما يعتقدونه، فلو كان المراد أن يهول الأمر لأفصح لهم بذلك، فكونه يقول: ( إن الله يقبض السماوات والأرضين، ثم يهزهن ) لا شك أن هذا إخبار بشيء واقع ولا بد؛ وما ذاك إلا ليبين أن الرب سبحانه وتعالى ذو العظمة، وذو الجلال والكبرياء الذي تصغر عنده المخلوقات والأجرام العلوية، والأجرام السفلية والمخلوقات كلها مع تباعدها وتنائيها - حقيرة وفقيرة وذليلة ومهينة أمام عظمة الباري وجلاله وكبريائه.
إذا تصور الإنسان عظمة هذه المخلوقات، ثم حقارتها أمام عظمة الرب سبحانه وتعالى عظم ربه في قلبه وهاب أن يعصيه، وهاب أن يخالف أمره، واستحضر أنه على كل شيء قدير، وأنه لا يتعاظمه شيء، وأن جميع المخلوقات هي ملكه وخلقه وتدبيره، فيكون هذا سببا في ذكر الأدلة على عظمة الله سبحانه وتعالى، حتى قال ابن عباس رضي الله عنه: ما السماوات السبع والأرضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة في يد أحدكم الخردلة التي هي أصغر من حبة الدخن كما هو معروف، فالله - تعالى - ذكر أنه يقبض السماوات والأرض، وروى ابن عباس ذكر مقدارها في قبضة الرب سبحانه وتعالى، والحاصل أن الكلام على إثبات اليدين.

ونقول: لماذا ذكر الله اليد بلفظ مفرد كقوله: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ ( الملك:1 ) ؟ .
الجواب: إن المراد جنس اليد، فإن الملك الحقيقي بيده سبحانه وتعالى، ولماذا ذكرها بلفظ جمع: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا ( يس:71 ) ؟ فالجواب أن المراد هنا التعظيم، فإنه ذكر نفسه بلفظ الجمع الذي يدل على العظمة، فإنه واحد سبحانه، ولم يقل: ( أيديه ) بل قال: ( أيدينا ) بضمير الجمع مثل قوله: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ ( الإنسان:2 ) ( إنا ) ضمير للجمع، والجمع هنا للتعظيم، فكذلك يقال: ( أيدينا ) للجمع، فالجمع للتعظيم؛ جمع الأيدي وجمع الضمير، فهذا وجه الإفراد ووجه الجمع.
يبقى التثنية في هذه الآية ونحوها، فذكرها بالتثنية دليل على أنها مقصودة، وأن لله - تعالى - يدين كما وصف نفسه، ودليله في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: وكلتا يديه يمين فدل على أن العدد مقصود، وأن لله يدين كما وصف نفسه، هذا هو قول أهل السنة.
أما النفاة فماذا يقولون؟ تجدون في تفاسير الأشاعرة والمعتزلة ونحوهم - لهذه الآيات عجائب من أمرهم، وقد حكى ابن جرير رحمه الله عند تفسيره هذه الآية في سورة المائدة أقوالا عنهم، وسماهم ( أهل الجدل )، في قوله: اختلف أهل الجدل في قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ( المائدة:64 ) فذكروا أن المراد باليد النعمة، أو أن المراد باليد القدرة، أو أن المراد بذكر اليدين هنا تمثيل للكرم ( يداه مبسوطتان ) أي: هو كريم وجواد يعطي ويكثر العطاء، وأن العرب تذكر اليدين وبسطهما وليس المراد حقيقة البسط، وإنما المراد كثرة العطاء، واستدلوا بقوله تعالى: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ( الإسراء:29 ) أي: مغلولة عن النفقة وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ( الإسراء:29 ) أي: تنفق نفقة طائلة.
ثم في النهاية قال رحمه الله: والقول الأخير أن اليد صفة من صفات الله، ثم أخذ ينصر هذا القول، ويؤيده، وأنها صفة من صفات الله - تعالى - أثبتها لنفسه، وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم.
وذكر أن الله خلق آدم بيده في قوله تعالى: لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ( ص:75 )، وأن تخصيص آدم بيده دليل على أنها اليد التي هي صفة من صفات الله تعالى، وأنه لو كان المراد خلقتُ بقدرتي لم يكن لآدم خصوصية، فإن إبليس خلق بقدرة الله، وكذلك الشياطين والجن، والمخلوقات كلها، والملائكة والسماوات والأرض كلها خلقت بقدرة الله، فلا يكون لآدم ميزة على هذه المخلوقات على قولهم هذا.
والصواب أن قوله تعالى: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ دلَّ على فضيلة اختص بها، ومن ثم فإن اليد هنا على الحقيقة، وهذا القول هو الأرجح، وأنها صفة من صفات الله أثبتها لنفسه، فلا نخوض في أكثر من ذلك، وننزه الله عن أن يكون مشابهًا للمخلوقات.