جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم. الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه إن غسل أعضاء الوضوء في اليوم خمس مرات دليل على أن الإسلام جاء بما ينشط البدن وينظفه، كما جاء بما يطهر الروح ويزكيها. فهو دين الطهارة الحسية والمعنوية.
الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد
79201 مشاهدة
مسألة: إثبات صفة الكلام لله تعالى

  قوله:
( ومن صفات الله تعالى؛ أنه متكلم بكلام قديم، يُسمِعُه من شاء من خلقه ، سَمِعه موسى عليه السلام، من غير واسطة وسمعه جبريل عليه السلام ومن أذن له من ملائكته ورسله، وأنه - سبحانه - يُكلِّم المؤمنين في الآخرة ويكلِّمونه، ويأذن لهم فيزورونه ، قال الله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [ النساء:164 ] وقال سبحانه: يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي [ الأعراف: 144 ] وقال سبحانه: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [ سورة البقرة:253 ] وقال سبحانه: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [ الشورى:51 ] . )


شرح:
هذه من الأدلة على أن الله - تعالى - متكلم ويتكلم إذا شاء، والدليل  قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا واضح في أن الله كلم موسى وأنه أسمعه كلامَه، وكذلك قوله تعالى : مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ يعني: موسى أو يعني مِن الرسل مَن كلمه الله ، وكذلك قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ ( الأعراف:143 ) إلى قوله تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ( الأعراف:144 ) واضح في أن الله كلَّمه، وأنه اصطفاه، واختصه برسالته، وبتكليمه له ، وأن الله أسمعه الكلام.
وقد ذُكر أن أحد الجهمية جاء إلى أبي عمرو بن العلاء - أحد القراء السبعة في العراق - وقال: أريد منك أن تقرأ هذه الآية: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ( النساء:164 ) بنصب ( اللهَ )، وقصده أن يكون موسى هو الذي كلم ربَّه، لا أن الله هو الذي كلم موسى يريد بذلك نفي كلام الله لموسى، ولكن أبا عمرو رحمه الله قال له : هَبْ أني قرأت أنا أو أنت هذه الآية هكذا، فكيف تفعل بقول الله تعالى : وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ هل تستطيع أن تغيرها؟ هل تستطيع أن تقدم فيها أو تؤخر؟ فتحير ذلك الجهمي ، وعرف أنه لا حيلة له في تغيير هذه الكلمة.
أراد أن يحرفها تحريفًا لفظيًّا، ويجعل الكلام من موسى لا من الله؛ في قوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا فجاءت هذه الآية التي تبطل تحريفه وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ فقدم الضمير المفعول به، والرب هو المكلِّم - فلم يكن له فيها حيلة.
ثم ذكر شيخ الإسلام أن المعتزلة والجهمية تأولوا هذه الكلمة فحرفوها تحريفًا عجيبًا ؛ فقالوا: التكليم: التجريح؛ قال تعالى: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ( البقرة:253 ) يعني: جرحه بأظافر الحكمة، وقالوا: إن الجُرح هو الكَلم كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ما من مكلوم يُكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته حين كُلمِ ؛ لونه لون دم وريحه مسك .

 فذهبوا مذهبًا بعيدًا، وفسروا التكليم بأنه التجريح - سبحان الله! وهل التجريح شرف ؟ وهل فيه ميزة لموسى ؟ ولماذا اختصه بقوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا بعد ما ذكر أنه أوحى إلى النبيين بقوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ( النساء:163 ) لو كان ذلك هو التجريح ما كان فيه فضيلة، كيف يكون جرحه بأظافير الحكمة؟ فإن التجريح عذاب سواءً كان حسيًّا أو معنويًّا، ثم يبطله أيضًا قوله تعالى: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي ( الأعراف:144 ) ولم يقل بتكليمي، والكلام واضح في أنه أراد ما سمعه من كلام الله له، فبطل بذلك تأويلهم.
كذلك أيضا قوله تعالى: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا ( الشورى:51 ) ليس المراد أن يجرحه إلا وحيًا، وهل الوحي تجريح بأظافير الحكمة ؟! فعرف بذلك أن التكليم هو الكلام، ولهذا قال تعالى: أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ( الشورى:51 ) يعني أو يْكلِّمه من وراء حجاب كما حصل لموسى .
وقوله:
( وقال تعالى: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ ( طه:11-12 ) وقال تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ( طه:14 ) وغير جائز أن يقول هذا أحد غير الله.


شرح:
من الأدلة أيضًا: آيات النداء، فالنداء لا يعرف إلا بالكلام ، وقد ذكر الله النداء في عدة آيات ، ففي سورة القصص ذكره في ثلاث آيات ؛ قال تعالى: وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ( القصص:62 ) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ ( القصص:65 ) فالنداء لا يكون إلا بصوت، وبكلام مسموع: قال الله تعالى : وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ( الشعراء:10 ) وقال تعالى : هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى ( النازعات:15-16 ) وفي هذه الآية فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إلى قوله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي ( طه:11-14 ) وكذلك قوله تعالى: وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا ( مريم:52 ) .
فلا شك أن النداء كلام مسموع ، فلا بد أن يكون كلام الله الذي تكلم به من الكلام المسموع الذي فهمه موسى ولهذا لما سمع كلام الله سأل النظر إليه، وقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ( الأعراف:143 ) الآية، فدل على أنه سمع كلام الله، ولا شك أن موسى سمع قول الله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي ( طه:14 ) من الذي قال هذا لموسى ؟ هل قالته الشجرة ؟! .