الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة) تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) .
شفاء العليل شرح منار السبيل
200589 مشاهدة
آنية الكفار وثيابهم

قوله: [ وآنية الكفار وثيابهم طاهرة ] لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- أضافة يهودي بخبز وإهالة سنخة رواه أحمد و توضأ من مزادة مشركة وتوضأ عمر -رضي الله عنه- من جرة نصرانية ومن يستحل الميتات والنجاسات منهم، فما استعملوه من آنيتهم؟ فهو نجس، لما روى أبو ثعلبة الخشني قال: قلت يا رسول الله إنا بأرض قوم أهل كتاب أفنأكل في آنيتهم؟ قال: لا تأكلوا فيها إلا أن لا تجدوا غيرها فاغسلوها ثم كلوا فيها متفق عليه . وما نسجوه، أو صبغوه، أو علا من ثيابهم، فهو طاهر، وما لاقى عوراتهم، فقال أحمد: أحب إلي أن يعيد إذا صلى فيها.
[ولا ينجس شيء بالشك ما لم تعلم نجاسته ] لأن الأصل الطهارة.


الشرح: الكفار هم كالوثنيين أو الذميين (من يهود ونصارى ومجوس) أو كالدهريين، وبعض هؤلاء تحل ذبائحهم- وهم اليهود والنصارى- لقوله تعالى وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ والمراد بطعامهم ذبائحهم كما قال ابن عباس - رضي الله عنه- فليس المراد بطعامهم خبزهم وشعيرهم وما أشبه ذلك، لأن هذا حلال لنا منهم ومن غيرهم، واليهود والنصارى هم أهل الكتاب دون غيرهم من الكفار، لقوله تعالى عن كفار قريش: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ والطائفتان هما اليهود والنصارى، وقد حلت ذبائحهم لنا لأنهم مأمورون بالتسمية عند الذبح، كما أنهم مأمورون بالذبح الشرعي وهو قطع (الحلقوم والمريء والودجين) فديانتهم تفرض عليهم ذلك، أي على المتمسكين باليهودية والنصرانية منهم، أما إن وجد منهم من لا يذبح هذا الذبح فإنه مرتد ولا يعد منهم، هذا حكم ذبائح أهل الكتاب.
وأما الكفرة الآخرون كالدهريين والمجوس والبعثيين ونحوهم فإنه لا تحل ذبائحهم؛ لأن الله قد خص ذلك بأهل الكتاب دون غيرهم.
وأما الآنية والثياب فإنها تباح من جميع الكفار، ولو لم تحل ذبائحهم- كالمجوس والدهريين والوثنيين ونحوهم- والدليل على هذا عموم قوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فالأصل حل ذلك حيث لم يرد ما يحرمه علينا، بل قد ذكر الشارح عددا من الأحاديث التي تفيد أنه -صلى الله عليه وسلم- قد استعمل آنية الكفار بجميع أنواعهم من أهل الكتاب أو المشركين، وهي مخرجة في إرواء الغليل، وأما حديث أبي ثعلبة - رضي الله عنه- فهو يدل على أن الأولى في ذلك التنزه عنها إذا وجد غيرها، لأنهم قد يطبخون فيها الخنزير ويشربون فيها الخمر، فأما إذا لم يجد المسلم غيرها فليغسلها وليأكل منها لا سيما إذا خاف تنجسها، كأن تكون لوثنيين يأكلون فيها الميتة.
أما ثياب الكفار فهي- أيضا- مما يجوز استعماله ولو لم تحل ذبائحهم- كالمجوس والمشركين ونحوهم- وثيابهم تارة لا تكون مما يلي العورة كالقمص والأكسية ونحو ذلك، فهذه حلال وطاهرة، لأنهم يصونونها عن النجاسات تقذرا، أما إذا كانت مما يلي العورة- كالتبان ونحوه- أو كانت مما يخشى نجاسته بأن يكون صاحبها أغلب حاله أنه لا يتطهر، فهذه الثياب تغسل ثم تلببس إذا احتاجها المسلم، أما إذا جهل حالها أو تيقن الطهارة منها وشك في النجاسة فالأصل أنها باقية على طهارتها.
ويلحق بهذه المسألة: إباحة ثيابهم- أي الكفار- التي ينسجونها؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إنما كان لباسهم من نسج الكفار، قال ابن القيم - رحمه الله- (ومن ذلك أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يلبس الثياب التي ينسجها المشركون ويصلي فيها) .