الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد
غلو الجبرية في إثبات القدر
القسم الثاني: يسمون الجبرية وهم طائفة من الأشاعرة غلوا في إثبات القدر رأس> حتى سلبوا العبد قدرته وإرادته، وقالوا: ليس للعبد أية اختيار، بل العبد مجبور على فعله مقسور عليه، ليس لديه أي نظر ولا همة ولا إرادة ، ويتمثل بعضهم بقوله:
ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له: | إياك إياك أن تبتل بالماء |
أيا علماء الدين ذمي دينكــــم | تحير دلّوه بأوضح حجـــة |
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم | ولم يرضه مني فما وجه حيلتي |
دعاني وسدّ الباب دوني فهل إلى | دخولي سبيل بيّنوا لي قضيتـي |
فأجاب شيخ الإسلام اسم> نظما وارتجالا وجعل يكتب وهو جالس، ويعتقدون أنه يكتب نثرا وإذا هو يكتب نظما في المنظومة التائية الموجودة في المجلد الثامن من مجموع الفتاوى والتي أولها:
سؤالك يا هذا سؤال معــاندٍ | مخاصم رب العرش باري البرية |
ويدعى خصوم الله يوم معادهم | إلى النار طُرا معشر القدريــة |
سواءٌ نفوه أو سعوا ليخاصموا | به الله أو ماروا به في الخليقـة |
وضعوا اللحم للبـزا | ة علـى ذروتي عــدن |
ثم لاموا الـبـزاة إذ | أطلقوا لهنّ الرســن |
لو أرادوا صيانتـي | ستروا وجهك الحسن |
ولما توجه عمر اسم> رضي الله عنه إلى الشام اسم> وأقبل عليهم، وذكروا له أن الطاعون وقع في الشام اسم> عزم على الرجوع، فقال له أبو عبيدة اسم> أفِرارًا من قدر الله ؟ فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله ، يعني أن فعلنا هذا مقدر ولو فعلنا هذا لكان مقدوراً، فالقدر هو ما نفعله، القدر هو ما يهدينا الله له, وفي الحديث رسم> أن رجلا قال : يا رسول الله، أرأيتَ رقى نسترقيها ودواءً نتداوى به وتقاة نتقيها ، هل تردُّ من قدر الله شيئًا ؟ ، فقال: هي من قدر الله متن_ح> رسم> يعني: قدَّر الله هذا المرض، وقدَّر أن العبد يتداوى فيشفى، وهذه الأدوية مكتوب أنها سوف تحصل وهي من قدر الله، جعلها الله تعالى سببًا.
وعلى هذا فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، وذلك لأن القدر إنما هو موافقة الأمر والنهي، فالإنسان مأمور بأن يفعل، فإذا فعل فقد وافق القدر ، وليس له أن يحتج بالقدر على ترك الفعل أو على فعل المحرم رسم> قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ قرآن> رسم> (الأنعام:149) آية> .
فكما أن الله تعالى أمرنا بفعل الأسباب الحسية وجعلها من القدر، فكذلك أمرنا بالأفعال المعنوية وجعلها من القدر، فنحن مأمورون مثلا بأن نتكسب ونطلب الرزق، ويكون هذا بقدر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: رسم> لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خِماصًا وتروح بطانًا متن_ح> رسم> فكما أن الطير لا تجلس في وكناتها، ولا في أوكارها، بل تغدو وتذهب وتتطلب الرزق حتى تجده، فالإنسان يسعى ويفعل الأسباب ويكسب، ويطلب الرزق ، ويمشي في الأسواق، ويبيع ويشتري ويحترف، وفعل هذا من قدر الله تعالى ومن قضائه المكتوب عليه.
وكذلك أيضا لا يقول : سأسكت فلا أتكلم فإن هذا قدر، نقول له: انطق وتكلم وذلك أيضا من القدر ، ولا يقول: سوف أمسك عن الأكل فإن قدر الله أن أعيش عشت، وإلا فلا، نقول: لا بل أطعم الطعام، وغذ بدنك فإن هذا مما أمرت به، وهو من الأسباب في حياتك، وهو أيضا من القدر ، ولا يقول: لا أتزوج فإن كان الله قدر لي أولادا حصلوا بدون زواج، نقول: لا، بل تزوج حتى يحصل ما قُدّر لك ، وهكذا التعلم وما أشبهه، كلها بقضاء وقدر، ولا بد أن يفعل العبد هذه الأسباب حتى يوافق ما قدر الله وما كتبه.
نقول بعد ذلك : إن أهل السنة توسطوا في ذلك فجعلوا للعبد قدرة، وجعلوا لله تعالى قدرة، وقدرة الله تعالى غالبة على قدرة العبد، وبقدرة العبد التي أعطاه الله إياها والتي مكنه بها يحصل الثواب والعقاب على هذه القدرة.
فلا شك أن الإنسان معه قدرة، ومعه تمكن، وأنه لولا هذه القدرة ما كُلف، وفي الآيات التي تقدمت ذكر الأدلة على ذلك: رسم> لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا قرآن> رسم> (البقرة:286) آية> فلو لم يكن للإنسان قدرة لما كلف، ولهذا لا يكلف المجنون ، ولا العاجز، ولا المقعد، ولا المريض، ولا فاقد القدرة.
وقوله تعالى: رسم> فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ قرآن> رسم> (التغابن:16) آية> يعني أن للعباد استطاعة وقدرة يزاولون بها أعمالهم، وهكذا الآيات التي فيها الأوامر والنواهي التي يوجهها الله إلى العباد: رسم> وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ قرآن> رسم> (المزمل:20) آية> رسم> وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ قرآن> رسم> (الإنعام:151) آية> ونحو ذلك.
ولو لم يكن للعباد قدرة ما وجهت إليهم هذه الأوامر، فدل على أن الله أعطاهم قدرة يزاولون بها الأعمال، ويصح بها أن يكونوا مكلفين، ويصح أن تنسب إليهم أفعالهم فيقال: هذا هو القاتل فاقتلوه، هذا هو الزاني فارجموه، هذا هو السارق فاقطعوه، ويقال: هذا هو المصلي يستحق الثواب، هذا هو الصائم له أجر صيامه، هذا هو المتصدق يضاعف الله أجره، فتنسب إليه أفعاله لأنها صدرت منه، وإن كانت مقدرة ومقضية ومخلوقة لله أزلاً، ولكن لما باشرها نسبت إليه فهي أفعاله.
مسألة>