إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه logo إذا كان عقل المريض معه وفهمه وإدراكه فإن الأوامر والأحكام الشرعية تنطبق عليه، ويكلف بالصلاة والصوم والطهارة ونحوها بحسب القدرة، ويجوز مساعدته على الطهارة إن قدر على غسل أعضائه، فإن عجز عن استعمال الماء في أعضائه وشق غسلها عليه عدل إلى التيمم، فإن عجز فإن المرافق يقوم بذلك بأن يضرب التراب فيمسح وجهه وكفيه مع النية. من كان مسافرا ولم يصل المغرب والعشاء فأدرك العشاء خلف إمام مقيم فالمختار أنه يصلي المغرب وحده، فإذا صلاها دخل معه في بقية العشاء، وذلك لاختلاف النية؛ فإن المغرب والعشاء متفاوتان بينهما فرق في عدد الركعات. هذا الذي نختاره. وأجاز بعض المشائخ أنه يدخل معهم بنية المغرب، فإذا صلوا ثلاثا فارقهم وتشهد لنفسه وسلم، ثم صلى العشاء، ولكل اجتهاده اختار بعض العلماء أن وقت الختان في يوم الولادة، وقيل في اليوم السابع، فإن أخر ففي الأربعين يوما، فإن أخر فإلى سبع سنين وهو السن الذي يؤمر فيه بالصلاة، فإن من شروط الصلاة الطهارة ولا تتم إلا بالختان، فيستحب أن لا يؤخر عن وقت الاستحباب.أما وقت الوجوب فهو البلوغ والتكليف، فيجب على من لم يختتن أن يبادر إليه عند البلوغ ما لم يخف على نفسه       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه.
shape
الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد
109958 مشاهدة print word pdf
line-top
غلو الجبرية في إثبات القدر

القسم الثاني: يسمون الجبرية وهم طائفة من الأشاعرة غلوا في إثبات القدر حتى سلبوا العبد قدرته وإرادته، وقالوا: ليس للعبد أية اختيار، بل العبد مجبور على فعله مقسور عليه، ليس لديه أي نظر ولا همة ولا إرادة ، ويتمثل بعضهم بقوله:
ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له:
إياك إياك أن تبتل بالماء
يقولون: إن الله هو الذي أوقعه في المعصية وخلقها فيه، وقدرها عليه، وألزمه بها، ومع ذلك يقول له: لا تعص، لا تقرب المعصية، لا تفعلها، فهو كمن كُتفت يداه، وألقي في البحر، وقيل له: لا تبل ثيابك بالماء، هذا غير ممكن, وذكروا أن يهوديا لعله قدري أو من هؤلاء الجبرية جاء إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ورفع إليه أبياتا يقول في أولها:
أيا علماء الدين ذمي دينكــــم  تحير دلّوه بأوضح حجـــة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
دعاني وسدّ الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل بيّنوا لي قضيتـي
فيقول: هو بمنزلة من دعاني وسد الباب دوني ولامني على ذلك.
فأجاب شيخ الإسلام نظما وارتجالا وجعل يكتب وهو جالس، ويعتقدون أنه يكتب نثرا وإذا هو يكتب نظما في المنظومة التائية الموجودة في المجلد الثامن من مجموع الفتاوى والتي أولها:
سؤالك يا هذا سؤال معــاندٍ
مخاصم رب العرش باري البرية
ويدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طُرا معشر القدريــة
سواءٌ نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ماروا به في الخليقـة
وقد زادت المنظومة على مائة وثلاثين بيتاً، أو نحوها، وبين له: إنك مخصوم، وإنك تقر على نفسك بأنك مخصوم، وإن الذين يحتجون بالقدر متناقضون ، فهم يقولون هذه المقالات حتى يحتجوا على فعل المعاصي بوجودها، وأنشد ابن القيم في بعض كتبه قول بعضهم:
وضعوا اللحم للبـزا
ة علـى ذروتي عــدن
ثم لاموا الـبـزاة إذ أطلقوا لهنّ الرســن
لو أرادوا صيانتـي ستروا وجهك الحسن
يقول : إنهم يحتجون بالقدر كما يحتج الزاني مثلا بأنهم دفعوه إلى الزنا، حيث إن النساء تكشفت أمامه فلم يملك نفسه أن اندفع ؛ يقول: لو أرادوا صيانتي ستروا وجهك الحسن هكذا يحتجون، ولكن لا حجة لهم في ذلك لأنهم متناقضون, ذكروا أن سارقا جيء به إلى عمر رضي الله عنه فأراد أن يقطع يده، فقال ذلك السارق: سرقت بقدر الله فقال عمر وأنا أقطع يدك بقدر الله؛ يعني: هذا قدر وهذا قدر.
ولما توجه عمر رضي الله عنه إلى الشام وأقبل عليهم، وذكروا له أن الطاعون وقع في الشام عزم على الرجوع، فقال له أبو عبيدة أفِرارًا من قدر الله ؟ فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله ، يعني أن فعلنا هذا مقدر ولو فعلنا هذا لكان مقدوراً، فالقدر هو ما نفعله، القدر هو ما يهدينا الله له, وفي الحديث أن رجلا قال : يا رسول الله، أرأيتَ رقى نسترقيها ودواءً نتداوى به وتقاة نتقيها ، هل تردُّ من قدر الله شيئًا ؟ ، فقال: هي من قدر الله يعني: قدَّر الله هذا المرض، وقدَّر أن العبد يتداوى فيشفى، وهذه الأدوية مكتوب أنها سوف تحصل وهي من قدر الله، جعلها الله تعالى سببًا.
وعلى هذا فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، وذلك لأن القدر إنما هو موافقة الأمر والنهي، فالإنسان مأمور بأن يفعل، فإذا فعل فقد وافق القدر ، وليس له أن يحتج بالقدر على ترك الفعل أو على فعل المحرم قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ (الأنعام:149) .
فكما أن الله تعالى أمرنا بفعل الأسباب الحسية وجعلها من القدر، فكذلك أمرنا بالأفعال المعنوية وجعلها من القدر، فنحن مأمورون مثلا بأن نتكسب ونطلب الرزق، ويكون هذا بقدر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خِماصًا وتروح بطانًا فكما أن الطير لا تجلس في وكناتها، ولا في أوكارها، بل تغدو وتذهب وتتطلب الرزق حتى تجده، فالإنسان يسعى ويفعل الأسباب ويكسب، ويطلب الرزق ، ويمشي في الأسواق، ويبيع ويشتري ويحترف، وفعل هذا من قدر الله تعالى ومن قضائه المكتوب عليه.
وكذلك أيضا لا يقول : سأسكت فلا أتكلم فإن هذا قدر، نقول له: انطق وتكلم وذلك أيضا من القدر ، ولا يقول: سوف أمسك عن الأكل فإن قدر الله أن أعيش عشت، وإلا فلا، نقول: لا بل أطعم الطعام، وغذ بدنك فإن هذا مما أمرت به، وهو من الأسباب في حياتك، وهو أيضا من القدر ، ولا يقول: لا أتزوج فإن كان الله قدر لي أولادا حصلوا بدون زواج، نقول: لا، بل تزوج حتى يحصل ما قُدّر لك ، وهكذا التعلم وما أشبهه، كلها بقضاء وقدر، ولا بد أن يفعل العبد هذه الأسباب حتى يوافق ما قدر الله وما كتبه.
نقول بعد ذلك : إن أهل السنة توسطوا في ذلك فجعلوا للعبد قدرة، وجعلوا لله تعالى قدرة، وقدرة الله تعالى غالبة على قدرة العبد، وبقدرة العبد التي أعطاه الله إياها والتي مكنه بها يحصل الثواب والعقاب على هذه القدرة.
فلا شك أن الإنسان معه قدرة، ومعه تمكن، وأنه لولا هذه القدرة ما كُلف، وفي الآيات التي تقدمت ذكر الأدلة على ذلك: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (البقرة:286) فلو لم يكن للإنسان قدرة لما كلف، ولهذا لا يكلف المجنون ، ولا العاجز، ولا المقعد، ولا المريض، ولا فاقد القدرة.
وقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (التغابن:16) يعني أن للعباد استطاعة وقدرة يزاولون بها أعمالهم، وهكذا الآيات التي فيها الأوامر والنواهي التي يوجهها الله إلى العباد: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (المزمل:20) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ (الإنعام:151) ونحو ذلك.
ولو لم يكن للعباد قدرة ما وجهت إليهم هذه الأوامر، فدل على أن الله أعطاهم قدرة يزاولون بها الأعمال، ويصح بها أن يكونوا مكلفين، ويصح أن تنسب إليهم أفعالهم فيقال: هذا هو القاتل فاقتلوه، هذا هو الزاني فارجموه، هذا هو السارق فاقطعوه، ويقال: هذا هو المصلي يستحق الثواب، هذا هو الصائم له أجر صيامه، هذا هو المتصدق يضاعف الله أجره، فتنسب إليه أفعاله لأنها صدرت منه، وإن كانت مقدرة ومقضية ومخلوقة لله أزلاً، ولكن لما باشرها نسبت إليه فهي أفعاله.

line-bottom