إذا ضعفت العقيدة في القلوب ضعف العمل، فإذا رأيت الذي يكون ضعيفا في عباداته، في صلواته وزكواته وما إلى ذلك، فاعلم أن ذلك لضعف في عقيدته بالأساس.فالعقيدة حقيقة إذا امتلأ بها القلب ظهرت آثارها على الجواربالوقوف قائما أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة logo    عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة)    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. يجوز أن يعلم القبر بعلامات يعرف بها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم لما دفن عثمان بن مظعون جعل عند قبره حجرا وقال: "أعرف به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي". فيجوز أن يجعل علامة كحجر أو لبنة أو خشبة أو حديدة أو نحو ذلك، ليميز بها القبر عن غيره حتى يزوره ويعرفه.أما أن يكتب عليه فلا يجوز؛ لأنه قد نهي أن يكتب على القبور حتى ولو اسمه، وكذلك نهي أن يرفع رفعا زائدا عن غيره. اشترط كثير من العلماء أن يكون التيمم بتراب له غبار يعلق باليد، ومنعوا التيمم بالرمل ونحوه مما لا غبار له، وألزموا المسافر أن يحمل معه التراب إذا سافر في أرض رملية، ولعل الصحيح جواز التيمم بالرمل؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا" متفق عليه.
shape
الإرشاد شرح لمعة الاعتقاد الهادي إلى سبيل الرشاد
117202 مشاهدة print word pdf
line-top
غلو الجبرية في إثبات القدر

القسم الثاني: يسمون الجبرية وهم طائفة من الأشاعرة غلوا في إثبات القدر حتى سلبوا العبد قدرته وإرادته، وقالوا: ليس للعبد أية اختيار، بل العبد مجبور على فعله مقسور عليه، ليس لديه أي نظر ولا همة ولا إرادة ، ويتمثل بعضهم بقوله:
ألقاه في اليمّ مكتوفا وقال له:
إياك إياك أن تبتل بالماء
يقولون: إن الله هو الذي أوقعه في المعصية وخلقها فيه، وقدرها عليه، وألزمه بها، ومع ذلك يقول له: لا تعص، لا تقرب المعصية، لا تفعلها، فهو كمن كُتفت يداه، وألقي في البحر، وقيل له: لا تبل ثيابك بالماء، هذا غير ممكن, وذكروا أن يهوديا لعله قدري أو من هؤلاء الجبرية جاء إلى شيخ الإسلام ابن تيمية ورفع إليه أبياتا يقول في أولها:
أيا علماء الدين ذمي دينكــــم  تحير دلّوه بأوضح حجـــة
إذا ما قضى ربي بكفري بزعمكم ولم يرضه مني فما وجه حيلتي
دعاني وسدّ الباب دوني فهل إلى دخولي سبيل بيّنوا لي قضيتـي
فيقول: هو بمنزلة من دعاني وسد الباب دوني ولامني على ذلك.
فأجاب شيخ الإسلام نظما وارتجالا وجعل يكتب وهو جالس، ويعتقدون أنه يكتب نثرا وإذا هو يكتب نظما في المنظومة التائية الموجودة في المجلد الثامن من مجموع الفتاوى والتي أولها:
سؤالك يا هذا سؤال معــاندٍ
مخاصم رب العرش باري البرية
ويدعى خصوم الله يوم معادهم إلى النار طُرا معشر القدريــة
سواءٌ نفوه أو سعوا ليخاصموا به الله أو ماروا به في الخليقـة
وقد زادت المنظومة على مائة وثلاثين بيتاً، أو نحوها، وبين له: إنك مخصوم، وإنك تقر على نفسك بأنك مخصوم، وإن الذين يحتجون بالقدر متناقضون ، فهم يقولون هذه المقالات حتى يحتجوا على فعل المعاصي بوجودها، وأنشد ابن القيم في بعض كتبه قول بعضهم:
وضعوا اللحم للبـزا
ة علـى ذروتي عــدن
ثم لاموا الـبـزاة إذ أطلقوا لهنّ الرســن
لو أرادوا صيانتـي ستروا وجهك الحسن
يقول : إنهم يحتجون بالقدر كما يحتج الزاني مثلا بأنهم دفعوه إلى الزنا، حيث إن النساء تكشفت أمامه فلم يملك نفسه أن اندفع ؛ يقول: لو أرادوا صيانتي ستروا وجهك الحسن هكذا يحتجون، ولكن لا حجة لهم في ذلك لأنهم متناقضون, ذكروا أن سارقا جيء به إلى عمر رضي الله عنه فأراد أن يقطع يده، فقال ذلك السارق: سرقت بقدر الله فقال عمر وأنا أقطع يدك بقدر الله؛ يعني: هذا قدر وهذا قدر.
ولما توجه عمر رضي الله عنه إلى الشام وأقبل عليهم، وذكروا له أن الطاعون وقع في الشام عزم على الرجوع، فقال له أبو عبيدة أفِرارًا من قدر الله ؟ فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله ، يعني أن فعلنا هذا مقدر ولو فعلنا هذا لكان مقدوراً، فالقدر هو ما نفعله، القدر هو ما يهدينا الله له, وفي الحديث أن رجلا قال : يا رسول الله، أرأيتَ رقى نسترقيها ودواءً نتداوى به وتقاة نتقيها ، هل تردُّ من قدر الله شيئًا ؟ ، فقال: هي من قدر الله يعني: قدَّر الله هذا المرض، وقدَّر أن العبد يتداوى فيشفى، وهذه الأدوية مكتوب أنها سوف تحصل وهي من قدر الله، جعلها الله تعالى سببًا.
وعلى هذا فلا يجوز الاحتجاج بالقدر على فعل المعاصي، وذلك لأن القدر إنما هو موافقة الأمر والنهي، فالإنسان مأمور بأن يفعل، فإذا فعل فقد وافق القدر ، وليس له أن يحتج بالقدر على ترك الفعل أو على فعل المحرم قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ (الأنعام:149) .
فكما أن الله تعالى أمرنا بفعل الأسباب الحسية وجعلها من القدر، فكذلك أمرنا بالأفعال المعنوية وجعلها من القدر، فنحن مأمورون مثلا بأن نتكسب ونطلب الرزق، ويكون هذا بقدر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: لو أنكم توكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خِماصًا وتروح بطانًا فكما أن الطير لا تجلس في وكناتها، ولا في أوكارها، بل تغدو وتذهب وتتطلب الرزق حتى تجده، فالإنسان يسعى ويفعل الأسباب ويكسب، ويطلب الرزق ، ويمشي في الأسواق، ويبيع ويشتري ويحترف، وفعل هذا من قدر الله تعالى ومن قضائه المكتوب عليه.
وكذلك أيضا لا يقول : سأسكت فلا أتكلم فإن هذا قدر، نقول له: انطق وتكلم وذلك أيضا من القدر ، ولا يقول: سوف أمسك عن الأكل فإن قدر الله أن أعيش عشت، وإلا فلا، نقول: لا بل أطعم الطعام، وغذ بدنك فإن هذا مما أمرت به، وهو من الأسباب في حياتك، وهو أيضا من القدر ، ولا يقول: لا أتزوج فإن كان الله قدر لي أولادا حصلوا بدون زواج، نقول: لا، بل تزوج حتى يحصل ما قُدّر لك ، وهكذا التعلم وما أشبهه، كلها بقضاء وقدر، ولا بد أن يفعل العبد هذه الأسباب حتى يوافق ما قدر الله وما كتبه.
نقول بعد ذلك : إن أهل السنة توسطوا في ذلك فجعلوا للعبد قدرة، وجعلوا لله تعالى قدرة، وقدرة الله تعالى غالبة على قدرة العبد، وبقدرة العبد التي أعطاه الله إياها والتي مكنه بها يحصل الثواب والعقاب على هذه القدرة.
فلا شك أن الإنسان معه قدرة، ومعه تمكن، وأنه لولا هذه القدرة ما كُلف، وفي الآيات التي تقدمت ذكر الأدلة على ذلك: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (البقرة:286) فلو لم يكن للإنسان قدرة لما كلف، ولهذا لا يكلف المجنون ، ولا العاجز، ولا المقعد، ولا المريض، ولا فاقد القدرة.
وقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ (التغابن:16) يعني أن للعباد استطاعة وقدرة يزاولون بها أعمالهم، وهكذا الآيات التي فيها الأوامر والنواهي التي يوجهها الله إلى العباد: وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ (المزمل:20) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ (الإنعام:151) ونحو ذلك.
ولو لم يكن للعباد قدرة ما وجهت إليهم هذه الأوامر، فدل على أن الله أعطاهم قدرة يزاولون بها الأعمال، ويصح بها أن يكونوا مكلفين، ويصح أن تنسب إليهم أفعالهم فيقال: هذا هو القاتل فاقتلوه، هذا هو الزاني فارجموه، هذا هو السارق فاقطعوه، ويقال: هذا هو المصلي يستحق الثواب، هذا هو الصائم له أجر صيامه، هذا هو المتصدق يضاعف الله أجره، فتنسب إليه أفعاله لأنها صدرت منه، وإن كانت مقدرة ومقضية ومخلوقة لله أزلاً، ولكن لما باشرها نسبت إليه فهي أفعاله.

line-bottom