إذا ضعفت العقيدة في القلوب ضعف العمل، فإذا رأيت الذي يكون ضعيفا في عباداته، في صلواته وزكواته وما إلى ذلك، فاعلم أن ذلك لضعف في عقيدته بالأساس.فالعقيدة حقيقة إذا امتلأ بها القلب ظهرت آثارها على الجواربالوقوف قائما أو عدم الاستظلال أو بترك الكلام فهذا ليس فيه طاعة إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم. إن أهمية الوقت معلومة عند كل عاقل؛ ذلك أن وقت الإنسان هو رأسماله، وهو عمره أيامه ولياليه، فإذا ما ضاع رأس المال، ضاعت الأرباح، وإذا عرف الإنسان ذلك، حرص على أن يستغلها ويستفيد منها وألا يضيعها، ليكون بذلك رابحا تعبير الرؤيا يرجع فيه إلى معرفة أشياء تختص بالرائي وما يتصل به، وكذا معرفة القرائن والأحوال، ومعرفة معاني الكلمات وما يتصل بها لغة وشرعا وما يعبر به عنها، وهذه الأمور ونحوها يختص بها بعض الناس لانشغالهم بمعرفتها وما يدور حولها، فعلى هذا لا يجوز لكل أحد أن يعبر الرؤى، فقد يفهم فهما بعيدا، وقد يأخذ التعبير من اللفظ لا من المعنى فيخطئ في ذلك.
تفاسير سور من القرآن
65207 مشاهدة
معنى قوله: كذلك نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ

...............................................................................


كذلك التصريف. التصريف قلب الشيء من حال إلى حال، والله يبين لنا المواعظ موعظة بعد موعظة، والآيات آية بعد آية في أسلوب بعد أسلوب. كذلك التصريف الذي صرفنا لكم فيه هذه الآيات، وبينا لكم ما يلزم، وبينا لكم عظم قدرتنا وأدلة ربوبيتنا وألوهيتنا، وضربنا لكم الأمثال فيمن ينفع فيه ذلك ومن لا ينفعه به. كذلك التصريف الموضح للآيات جملة بعد جملة وآية بعد آية، كذلك التصريف.
نُصَرِّفُ الْآيَاتِ نأتي بها على أنحاء مختلفة في أساليب مختلفة لعل الله يهدي بذلك من يشاء. وقوله: لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ خص القوم الذين يشكرون؛ لأنهم هم المنتفعون بالآيات؛ كقوله: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ ؛ لأن من يخاف الوعيد هو المنتفع به.كقوله : إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وما جرى مجرى ذلك.
وقد بينا في هذه الدروس مرارا أن لفظة القوم أنه اسم جمع لا واحد له من لفظه، وأنه يطلق على خصوص الذكور بالوضع العربي، وربما دخلت فيه الإناث بحكم التبع، وبينا أن الدليل على اختصاص لفظ القوم بالذكور قوله تعالى في الحجرات: لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ثم عطف النساء على القوم فقال: وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ ؛ فدل على عدم دخول النساء في القوم بحسب الوضع العربي.
ودل عليه أيضا قول زهير بن أبي سلمى
وما أدري وسـوف إخــال أدري
أقـوم آل حـصن أم نســـــاء
فعطف النساء على القوم فدل على أنهن غير داخلات في اسم القوم وضعا؛ لأن الأصل عدم التكرار، وعدم عطف الشيء على ما هو أعم منه أو أخص إلا بدليل.
والدليل على دخول الإناث في القوم بحكم التبع قوله تعالى في بلقيس وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ فصرح بأنها من قوم كافرين، أدخلها في اسم القوم تبعا.
وقوله: يَشْكُرُونَ مفعوله محذوف؛ أي يشكرون لله نعمه. وهذه الآية تبين أن من أعظم إنعام الله هو هذا القرآن العظيم وتصريف الآيات فيه وبيانها للناس؛ لأن أعظم النعم هو إنزال هذا القرآن العظيم، وبيان ما فيه من الآيات مما يرضي الله، ومما يستجلب المعاطب والمخاوف، ومما يستجلب السلامة.
ولذا بين الله أن إنزاله فضل كبير على الخلق لما قال: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا وقسمهم فقال: فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ .
بين أن إنزال القرآن العظيم أكبر فضل، قال : ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ؛ أي الفضل الكبير من الله عليهم؛ حيث أنزل لهم كتابه يتلى محفوظا يبين لهم ما يقربهم إلى ربهم، وما يبعدهم من النار، وما يهذب نفوسهم، ويربي أرواحهم ويرفع أخلاقهم، ويبين لهم مكارم الأخلاق إلى غير ذلك.
ولذا قال هنا: لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ؛ فبين أن تفصيل الآيات وإيضاح هذا القرآن نعمة عظمى من الله يستحق أن يشكر عليها؛ ولذا علم خلقه أن يحمدوه على هذه النعمة العظمى التي هي إنزال القرآن، قال في أول الكهف: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا .
فقوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ -تعليم من الله لخلقه أن يحمدوه أعظم الحمد على هذه النعمة العظمى الكبرى التي هي إنزال هذا القرآن العظيم. وأشار لذلك في قوله هنا: لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ .
وقد بينا في هذه الدروس مرارا أن أصل الشكر في لغة العرب ربما يراد به الظهور؛ ولذا تسمي العرب الغصن الذي ينبت في الجذع الذي كان مقطوعا تسميه شكيرا؛ لأنه ظهر بعد أن لم يكن هناك شيء ظاهر. وتقول العرب: ناقة شكور إذا كان يظهر عليها آثار السمن.
والمراد به في اللغة أن يكون أثر نعم الله ظاهرا على عبده؛ فلا يجحده ولا يكفر به ولا يجحد نعمه، ولا يستعين بها على ما لا يرضيه.
وقد بينا أن القرآن جاء فيه شكر الرب لعبده، وشكر العبد لربه. جاء شكر الرب لعبده في قوله: وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ وشكر العبد ربه كقوله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ وقوله هنا: لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ .
وبينا أن بعض العلماء يقول: إن شكر الرب لعبده هو أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل، وشكر العبد لربه هو أن يستعمل نعمه في مرضاة ربه؛ فنعمة العين شكرها ألا ينظر بها إلا فيما يرضي من خلقها وامتن بها. وشكر نعمة اليد ألا يبطش بها إلا فيما يرضي من خلقها وامتن بها، وشكر نعمة الرجل ألا يمشي بها إلا إلى ما يرضي من خلقها وامتن بها، وشكر المال ألا يستعين به ويصرفه إلا فيما يرضي من خلقه وامتن به، وهكذا .
وبينا أن العبد الذي يستعين بنعم الله على معاصي الله أنه بالغ من اللؤم والوقاحة شيئا لا يقادر قدره؛ فمن أعظم الناس لؤما وأشدهم وقاحة وأقلهم حياء هو من يستعمل نعم خالق السماوات والأرض التي أنعمها عليه؛ يستعملها ويستخدمها في معصيته، وفيما يسخطه!! فهذا الإنسان ليس في وجهه ماء يستحيي به؛ فهو من أقل الناس حياء وألئمهم وأخسهم .
وكيف يجمل بعبد مسكين ضعيف أن ينعم عليه خالق السماوات والأرض نعمه الكثيرة بفضله ورحمته، ثم يستعين بنعم خالقه على معصية خالقه، وما يسخط خالقه؛ فهذا أقبح اللؤم وأخسه، وصاحبه أقل الناس حياء وأشدهم وقاحة .
وبينا أن مادة شكر في لغة العرب -أنها تتعدى إلى النعمة بنفسها بدون حرف الجر؛ تقول: شكرت نعمة الله، وهذا أمر لا خلاف فيه، ومنه قوله: أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فإذا كان الشكر شكر نعمة تعدى إليه الفعل بنفسه بلا خلاف.
أما شكر المنعم فاللغة الفصحى التي نزل بها القرآن أن يعدى الشكر إلى المنعم باللام، فتقول: شكرا لك، وتقول: أنا أشكر لك، ولا تقول: أنا أشكرك، وتقول: نحمد الله ونشكر له، ولا تقول: ونشكره. وهذه هي اللغة الفصحى. تعديته باللام هي اللغة الفصحى التي لا شك في أنها أفصح وهي لغة القرآن ؛ لأنه ما جاء في القرآن معدى إلى المنعم إلا باللام كقوله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ .
ولم يقل في آية واحدة: اشكرني بتعدية الفعل إلى المفعول دون اللام. ومن هنا شذ قوم من علماء العربية فقالوا: أحمده وأشكره لحن، ولا يجوز: وأشكره، وإنما يجوز وأشكر له. ولكنهم غلطوا؛ لأن اللغة الفصحى هي وأشكر له، ولكن وأشكره بتعدية الفعل إلى المنعم بلا واسطة حرف جر -لغة معروفة مسموعة في كلام العرب.
وقد بينا فيما مضى شواهدها. ومن شواهدها قول أبي نخيلة
شكرتك إن الشكر حبل مـن التقـى
وما كل من أوليتـه نعمـة يقضـي
فهذا الشاعر الفقيه قال: شكرتك بالكاف، ولم يقل: شكرت لك، ومنه قول جميل بن معمر في شعره المشهور:
خليلي عوجا اليوم حـتـى تسلمـا
على عذبة الأنياب طيبـة النشــر
فإنكما إن عجتمـا بـي سـاعـة
شكرتكما حتى أغيب فـي قــبري
فقال: شكرتكما ولم يقل: شكرت لكما.
فتبين من هذا أن مادة شكر تتعدى إلى النعمة مفعولا بنفسها وإلى المنعم باللام في اللغة الفصحى. وربما تعدت إلى المنعم بنفسها بدون حرف جر، وهذا معنى قوله: نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ والتفصيل ضد الإجمال أي نأتي بها مفصلة مفصلة آية بعد آية، وموعظة بعد موعظة في أسلوب بعد أسلوب؛ لأجل أن يشكروا.
لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعمنا في ذلك البيان؛ لأن بيان الله بما ينفع وما يضر من أعظم مننه ونعمه على خلقه، وهذا معنى قوله: لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ .