(يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم.       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. إذا كان عقل المريض معه وفهمه وإدراكه فإن الأوامر والأحكام الشرعية تنطبق عليه، ويكلف بالصلاة والصوم والطهارة ونحوها بحسب القدرة، ويجوز مساعدته على الطهارة إن قدر على غسل أعضائه، فإن عجز عن استعمال الماء في أعضائه وشق غسلها عليه عدل إلى التيمم، فإن عجز فإن المرافق يقوم بذلك بأن يضرب التراب فيمسح وجهه وكفيه مع النية. الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه. اللسان أمانة،استودعه الله عندنا وأمرنا بأن نستعمله في الذكر وفي العلم وفي التعليم وفي النصيحة وما أشبه ذلك، ولا نستعمله في غيبة ونميمة ولا في هجاء ولا في عيب وقذف وهمز ولمز وما أشبه ذلك. وهكذا بقية الجوارح أمانات داخلة في قول الله تعالى: (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) .
تفاسير سور من القرآن
65208 مشاهدة
العقاب يقع بذنوب البعض

...............................................................................


وقد يهلك الله بني آدم بذنوب بعضهم، فإذا انتشر الفساد في الأرض، وكان الناس قادرين على أن يكفوه فلم يكفوه نزل البلاء، فعم الصالح والطالح كما جاء في الأحاديث الكثيرة. في قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً .
ومن أوضح ذلك حديث النعمان بن بشير الثابت في الصحيح المشهور الذي ضرب فيه النبي صلى الله عليه وسلم مثلا للناس؛ إن أخذت على أيدي السفهاء ومنعتهم من معاصي الله، وأمرت بالمعروف، ونهت عن المنكر، وإن لم تفعل ذلك. فضرب لهم مثلا بقوم استهموا على سفينة.
وكان بعضهم في أسفل السفينة وكانوا إذا أرادوا أن يشربوا من الماء صعدوا فمروا على من فوقهم فقالوا: لا ينبغي لنا أن نصعد ونمر على من فوقنا بل نخرق السفينة مما يلينا، ونشرب مما يلينا، فلا نصعد حتى نمر على من بأعلاها؛ فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنهم إن تركوهم وما أرادوا وخرقوا السفينة دخل الماء فيها فامتلأت فغرق الجميع. وإن زجروهم، وكفوا أيديهم نجوا ونجا الجميع.
نقلنا الحديث بالمعنى هو حديث ثابت في الصحيح مشهور. وهو واضح في أن السفهاء إن لم يؤمروا بالمعروف، وينهوا عن المنكر، ويضرب على أيديهم -أنهم يهلكون الجميع، ويهلك الجميع بذنوبهم.
وفي الحديث الصحيح المشهور من حديث أم المؤمنين أم الحكم زينب بنت جحش رضي الله عنها أنها لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للعرب من شر قد اقترب!! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا وعقد التسعين -مثل هذا- أنها رضي الله عنها لما سألته فقالت: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث .
فإذا انتشرت المعاصي، وكثر الخبث، ولم يضرب على أيدي السفهاء أوشك الله أن يعمهم بعذاب من عنده، ولذا عم جميع من في الأرض بذنوب من كذبوا نوحا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام. لما دعا عليهم نوح قيل لنوح حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ .
الذي سبق عليه القول من أهله زوجته الكافرة قبحها الله، وابنه الكافر. والمؤرخون يزعمون أن اسمه كنعان فلما ركب نوح في السفينة وفجر الله عيون الأرض، وأنزل الماء من السماء فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِر أهلكهم الله بذلك الطوفان ولم يبق منهم باقية.
وفي قصتهم أن الله تبارك وتعالى لو كان يرحم أحدا منهم لرحم امرأة منهم في القصة؛ لأن عندها ولدا صغيرا تحبه حبا شديدا، كانت كلما طلع الماء ارتفعت بالولد إلى الجبل، حتى صارت على رأس الجبل فطم الماء على الجبل، فكان الماء كلما بلغ شيئا منها رفعت الولد، حتى بلغ حلق حلقومها رفعت يدها بالولد حتى أغرق الله الجميع ودمر الله الجميع.
واعتذر نبي الله نوح عن دعائه عليهم مع أن الله أعلمه أنهم خبثاء، ليس فيهم خير. نوح -يقول لربه: قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا .
... إلا قليل.
وبعض المؤرخين يقولون: هم ثمانون رجلا أربعون رجلا وأربعون امرأة هم ثمانون نفسا، وبعضهم يقول: هم تسعة أنفس، والله تعالى أعلم. ولكن الله بين أنهم قليل؛ حيث قال: وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ وقال: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ .
فصارت تلك السفينة تجري بهم تتلاطم عليها الأمواج، كما قال تعالى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ ؛ أي الأمواج كأنها الجبال، وهذا يدل على عظم الطوفان وارتفاعه فوق الأرض؛ حيث شبه أمواجه بالجبال كما قال: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ فأهلكهم الله ودمرهم واستوت السفينة عَلَى الْجُودِيِّ .
ثم لما قضى الله أمره وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ فلما أرسل الله الرياح، ونشفت الأرض، ويبست من آثار ذلك الطوفان نزل نوح ومن معه، وتناسل من معه، وصار جميع الدنيا من أولاده الثلاثة الذين كانوا معه كما قال تعالى: وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ .
والمؤرخون يسمون نوحا آدم الأصغر؛ لأن جميع من بعده من الدنيا من نسله، وأولاده الذين معه سام وحام ويافث وبعض المؤرخين يقولون: إن جميع الموجودين في الدنيا راجع إلى تلك الأصناف التي هي من نسل هؤلاء الرجال، ويزعمون أن ساما من نسله العرب والروم والفرس، وأن حاما من نسله القبط والسوادين والبربر، وأن يافث من نسله الصقالبة ويأجوج ومأجوج والترك، وأن جميع أنواع الناس يرجع في الأصل إلى هذه العناصر.
هكذا يقولون والله تعالى أعلم، ولذا قال تعالى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الفلك السفينة. وهذه السفينة تمشي في البحر تحمل الناس آية من آيات الله كما قال: وآية لهم أنا حملنا ذرياتهم في الفلك المشحون، وفي القراءة الأخرى: ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ .
فالفلك السفينة، ويطلق على جمع السفن فهو يطلق على المفرد وعلى الجمع، قال بعض علماء العربية: إن أطلق على المفرد فضمة فلك كضمة قفل، وإن أطلق على الجمع فضمة فلك كضمة كتب ورسل، هكذا يقولون. وقد يجوز تذكيره وتأنيثه.
وإذا جاء في القرآن مجموعا كان مؤنثا دائما كقوله في الفلك: لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ إلى غير ذلك من التأنيث، وربما جاء الفلك مذكرا مفردا في قوله: فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ولم يقل المشحونة أي المملوء ... فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ ؛ أي في السفينة التي هم .. من أجلها وأن الله وعده بأنه سيهلك قومه بالغرق في الطوفان.
وهذا مما يدل على أن الآدميين ينبغي لهم معرفة الصنايع، وألا يكونوا متواكلين متكاسلين؛ فالصنائع والحرف الصناعية ينبغي للمجتمع أن يتعلموها، ألا ترون أن النجارة هي من جملة الصنائع، وكثير من الناس يأنف عن أن يتعاطاها مع أن معلمها الأول هو جبريل عليه السلام وتلميذها الأول هو نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
كما في قوله: وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ؛ فمعلمها الأول جبريل وتلميذها الأول نوح ثم إنها هي السبب في وجود الموجودين من بني آدم على ظهر الأرض؛ لأن من لم يكن في تلك السفينة المصنوعة عن طريق النجارة لم يبق منهم أحد.
لم تبق منهم عين تطرف بل ماتوا كلهم كما قال: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وقال هنا: فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ .