جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه. القلوب أوعية؛ منها ما يستوعب الخير، ومنها ما يستوعب الشر. وأفضل القلوب هي التي تمتلئ بالخير،تمتلئ بالعلم وتمتلئ بالدين والعبادة، تمتلئ بالعلم النافع والعقيدة السليمة، هذه هي القلوب الواعية، وهي أرجى القلوب لتحصيل الخير قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم.
شرح كتاب العظمة المجموعة الثانية
108167 مشاهدة
آراء العلماء والفلاسفة عن الروح

...............................................................................


وقد تكلم العلماء في هيكل هذا الروح، وأطالوا الكلام فيه، وكذلك تكلم فيه الفلاسفة ونحوهم. فيسمون الروح: النفس الناطقة، هكذا يتحققون، حتى الفلاسفة يتحققون أن هناك أرواحا، وأن الجسد ليس هو المستقل وحده بهذه الحياة الدنيا، بل لا بد أن يكون هناك ما يحييه وهي هذه الروح. ولقد اختلفوا في كيفيتها، وكانت نهايتهم التوقف.
مر بنا أن اليهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن الروح؟ ماهية الروح: ما كيفيتها؟ أنزل الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي: كيفية الروح من أمر الله أي خلقت بأمر الله، من أمر الله، يعني: من خلقه، يعني: مما خلقه بأمره، أي: أنها مخلوقة بأمر الله تعالى؛ لقوله: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .
وقد تكلم العلماء أولا على كيفيتها: هل الروح لها وزن؟ هل لها ثقل؟ ما رأوا لها ثقلا.. إذا وُزِنَ الإنسان وهو حي، ثم وُزِنَ بعد موته ما تغير وزنه. هذه الروح ما زادت في ثقله، ولا زادت في وزنه.
كذلك أيضا قد يسلط الله الروح الجنية- أرواح الجن- على الإنسان، فيتسلط الجني على جسد الإنسان، فيلابسه ويغلب على معنويته، ويصير ذلك الجني هو الذي لابس جسد الإنسان، ومع ذلك لا يُرَى ذلك الجني، ولا يكون له ثقل، ولا يظهر له وزن، إذا وزن ذلك المصروع الذي لابسه الجن، ثم وزن بعدما يخرج ذلك الجني من جسده ما ظهر تفاوت، ولا ظهر له وزن، ولا تغير وزنه، ذلك دليل على أن هذه الأرواح خفيفة، ولكنا لا نعلم كيفيتها .
انتهت أقوال العلماء على أن يقولوا: الروح من أمر ربي روح الإنسان التي يحيا بها جسده، وكذلك بقية الأرواح، يعجز فكر الإنسان عن أن يتصورها؛ لأن البصر يخرقها، ولأنها لا شيء يشاهدها، ولا تحس، ولا تمس ظاهرا. لكن الله تعالى أقدر هؤلاء الجن -كما أقدر الملائكة- على التشكل فلهم قدرة على أن يظهروا بأشكال متفاوتة، على أن يتشكلوا بصور متنوعة، فالجني تارة يظهر بصورة كلب، وبصورة حمار، وبصورة حية، وبصورة ذئاب، أو يتصور بصورة إنسان، قد يتصور بصورة شيخ هرم، أو بصورة شاب قوي، أو بصورة أنثى، يقدر بقدرة الله تعالى على أن يتشكل بأشكال متعددة، ومع ذلك فإن أصله روح بلا جسد، وقد كثر كلام المتكلمين حول هذه الأرواح وأطالوا القول فيها.
فهناك من الفلاسفة مَنْ يدعون أنها غير مخلوقة، وأنها هبطت من السماء، واتصلت بهذه المخلوقات، ثم بعد ذلك تفارقها: تفارق هذه الأجساد عند الموت، ومن هؤلاء الفلاسفة فيلسوف يقال: له ابن سينا وله قصيدة في ذلك مطلعها قوله:
هبطت إليـك من المحـل الأرفـع
رقــاء ذات تقلـــب وتفجــع
صلـت على كـره فلما واصلـت
ألفتْ مـرافـقـة الخـراب البلقـعِ
يشبه الروح بأنها ورقاء؛ نوع من الطير، وأنها جاءت على كُرْهٍ إلى هذا المخلوق، وبعد ذلك ألفته. وهذا يخالف قول الله تعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فإن الأرواح من جملة الأشياء، فهي مخلوقة، ويخالف قول الله تعالى في الجن: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ فأخبر أنه خَلَقَ الجان من نار السموم، وكذلك أخبر عن إبليس بقوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أخبر بأن إبليس خلق من النار- من نار السموم.
ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن الملائكة خُلِقَتْ من النور في قوله: خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم مما وصف لكم فدل على أن الجن والشياطين والملائكة مخلوقون، مع أنهم أرواح، فكذلك يقال في أرواح الإنسان، في روح الإنسان أيضا أنها من جملة المخلوقات، وإن كنا نَعْجِز عن إدراك كيفيتها، ومن أي شيء هي.
ولما ادعى الفلاسفة أن الروح هو جميع هذا الهواء الذي جعله الله تعالى في هذه الأرض، وما فوقها، رد عليهم العلماء بالأدلة التي تدل على أن كل إنسان له روح.
فمن الآيات قول الله تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ التوفي بالليل هو: بالنوم، قبض هذه الأرواح في النوم، ثم يعيدها الله تعالى بعد اليقظة، ومن الآيات قول الله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ودليل على أن هذه الروح تُقْبَضُ: أن الأرواح كلها يتوفاها الله تعالى، فيمسك الأرواح التي قد ماتت أجسادها، ويرسل الأرواح التي بقيت أجسادها حَيَّةً إلى أجل مسمى، وكذلك قول الله تعالى: وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ يعني: أرواحكم، أي: لتخرج الأرواح.
وكذلك الأحاديث الكثيرة في قبض الروح أشهرها حديث البراء بن عازب الذي في السنن، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كان المؤمن في إقبال من الآخرة، وانقطاع من الدنيا نزلت عليه ملائكة بيض الوجوه، معهم أكفان من الجنة، وحنوط من الجنة، وياسمين من الجنة، فيجلسون منه مد البصر، ويأتيه ملك الموت، فيقف عند رأسه ويقول: اخرجي أيتها الروح الطيبة، كانت في الجسد الطيب، كنتِ تعمرينه، اخرجي إلى رَوْح وريحان، ورب راض عنك غير غضبان، فتسيل روحه كما تسيل القطرة من فم السقاء .
وفي حديث آخر: فتُسَلّ روحه كما تسل الشعرة من العجين أي لا يتأثر فإذا أخذ روحه لم يدعه في يده طرفة عين حتى يجعلها في ذلك الحنوط وفي تلك الأكفان وذلك الياسمين إلى آخر الحديث. وقال في الكافر: إنه إذا كان في إدبار من الدنيا، وإقبال من الآخرة، نزلت عليه ملائكة سود الوجوه، معهم أكفان من النار، وحنوط من النار، فيجسلون منه مد البصر ويأتيه ملك الموت، فيجلس عند رأسه ويقول: اخرجي أيتها الروح الخبيثة كانت في الجسد الخبيث، كنت تعمرينه، اخرجي إلى غضب من الله وسخط، فتتفرق روحه في جسده، فينتزعها ملك الموت من جسده كما ينتزع السفود من الصوف المبلول يعني: أنها تخرج بقوة، يخرجها الملك فتُقطع العروق، وتُقطع اللحم، ويلقى شدة إلى آخره.
فإن هذا دليل على أن الملائكة يقبضون الأرواح وأنهم يكفنونها، ويصعدون بها إلى السماء، وأنه يشيعها من كل سماء مقربوها، ويخرج منها كأطيب ريح وجدت على ظهر الدنيا، وأنهم كلما مروا على ملأ من الملائكة يقولون: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان -بأحسن أسمائه في الدنيا- وذكروا ضد ذلك في الكافر. فهذا دليل على أن الروح تقبض، وأنها تصعد إلى السماء، وأن الملائكة يكفنونها ويحنطونها.
وفي الحديث أنه قال: ردوا روح عبدي إلى الأرض فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى وأخبر بأن روحه تعاد في جسده إلى آخره، يعني: تتصل به .