تفاسير سور من القرآن
إحاطة علم الله تعالى
...............................................................................
هذا الكتاب فصله خالق السماوات والأرض، حال كون ذلك التفصيل على علم منه جل وعلا، وعلمه محيط بكل شيء، لا يخفى عليه شيء؛ فهو عالم بما كان وما يكون، وما لو كان كيف يكون لأنا بينا مرارا أن العلم الكامل لله جل وعلا وحده. فهو المحيط علمه بكل شيء.
يعلم ما كان وما يكون؛ حتى إنه من إحاطة علمه ليعلم ما سبق في علمه أنه لا يكون أن لو كان كيف يكون، ومن إحاطة علم الله أن جميع الخلائق لا يعلمون إلا ما علمهم الله من علمه؛ فالعلم المحيط لله جل وعلا وحده، ولا يعلم أحد شيئا إلا ما علمه العليم الخبير جل وعلا. ومما يوضح هذا أن أعظم الخلائق الملائكة والرسل الكرام صلوات الله وسلامه عليهم؛ فالملائكة لما قال لهم خالقهم جل وعلا: رسم> أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قرآن> رسم> .
ماذا قال الملائكة؟ قالوا: رسم> قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قرآن> رسم> ؛ فقوله: رسم> لَا عِلْمَ لَنَا قرآن> رسم> هي لا التي تسمى لا النافية للجنس، فهي لنفي جنس العلم، فنفوا جنس العلم عنهم أصلا إلا شيئا علمهم الله إياه.
وهؤلاء الرسل الكرام الذين هم صفوة الله من خلقه، وأعلم الخلق بالله؛ صلوات الله وسلامه عليهم؛ هذا سيدهم وخاتمهم وأفضلهم على الإطلاق نبينا صلى الله عليه وسلم -رميت زوجته أم المؤمنين عائشة بنت الصديق اسم> رضي الله عنها في غزوة المريسيع بأعظم فرية وأكبر شنيعة.
وهو صلى الله عليه وسلم مع ما أعطاه الله من النبوة والعلم العظيم، ما كان يدري أحق ما قيل عنها أم كذب؟ وكان يقول لها: رسم> كيف تيكم؟ لا يدري عن حقيقة الأمر، ويقول لها: يا عائشة اسم> إن كنت ألممت بذنب فتوبي، وإن كنت بريئة فسيبرئك الله متن_ح> رسم> ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أعلمه الحكيم الخبير؛ فقال له: رسم> أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ قرآن> رسم> .
ولما نزل الوحي ببراءتها وقالت لها أمها: قومي إلى رسول الله فاحمديه، قالت: لا، والله لا أحمده، ولا أحمد اليوم إلا الله؛ فإن الله هو الذي برأني وهو لم يبرئني.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: رسم> قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قرآن> رسم> وقد قيل له أن يقول: رسم> وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ قرآن> رسم> .
وهذا نبي الله إبراهيم اسم> وهو هو، قال الله له: رسم> إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قرآن> رسم> ذبح عجله وتعب هو وامرأته في إنضاج العجل يظن أن الضيف الذين عنده يأكلون، ولم يعلم أنهم جبريل اسم> والملائكة معه.
رسم> فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قرآن> رسم> وبين لهم أنه خائف منهم رسم> قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ قرآن> رسم> ولم يعلم أنهم ملائكة رسل الله حتى أخبروه. قال لهم: رسم> فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ قرآن> رسم> قالوا: رسم> إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ قرآن> رسم> .
ولما نزلوا بنبي الله لوط اسم> وهو هو!! رسم> سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ قرآن> رسم> يظن أنهم فتيان حسان الوجوه حسان الثياب حسان الروائح، وأن قومه يفعلون بهم فاحشة اللواط حتى قال كلامه المحزن: رسم> لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ قرآن> رسم> .
ولم يعلم أنهم ملائكة حتى قال له جبريل اسم> رسم> يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ قرآن> رسم> وهؤلاء الذين كانوا يدقون الباب ليكسروه، يريدون أن يفعلوا فاحشة اللواط في جبريل اسم> والملائكة معه -لما أذن الله لجبريل اسم> فيهم مسح وجوههم بريشة من جناحه؛ فبقيت أعينهم كأنها لم تكن أصلا، كما يأتي في قوله عنهم: رسم> وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ قرآن> رسم> .
وهذا نبي الله نوح اسم> وهو هو!! صلوات الله وسلامه عليه، ما كان يظن أن ابنه كافر وكان يقول: رسم> رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ قرآن> رسم> أي وقد قلت لي: رسم> احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ قرآن> رسم> .
ولم يدر ما حقيقة ولده حتى أعلمه الحكيم الخبير؛ فقال له: رسم> يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قرآن> رسم> فما كان من نوح اسم> إلا أن رسم> قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ قرآن> رسم> .
وهذا نبي الله يعقوب اسم> الذي قال الله فيه: رسم> وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ قرآن> رسم> رسم> وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ قرآن> رسم> لم يدر عن ولده يوسف اسم> في مصر اسم> ما بينه وبينه إلا مراحل قليلة حتى جاءه البشير بخبره.
وهذا سليمان اسم> أعطاه الله الريح رسم> غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ قرآن> رسم> وسخر له الجن والطير -ما كان يدري عن ملكة سبأ ولا عن مأرب اسم> ولا عن ما جرى فيها حتى أخبره الهدهد المسكين الضعيف.
وكان سليمان اسم> عليه السلام متوعدا للهدهد؛ لأنه خرج بلا إذن رسم> وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ قرآن> رسم> فلما علم الهدد بقضية اليمن اسم> بعد علم التاريخ وعلم الجغرافيا من ملكة سبأ وقومها، وكان سليمان اسم> يجهله.
أعطاه هذا العلم قوة وصمودا أمام سليمان اسم> ووقف أمام النبوة والملك وقفة الرجل الصامد، ونسب الإحاطة لنفسه ونفاها عن سليمان اسم> وقال: إني رسم> أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ قرآن> رسم> وهكذا، إن الله جل وعلا هو المحيط علمه بكل شيء، ولكنه يطلع رسله على ما شاء من غيبه.
وقد أطلع نبينا صلى الله عليه وسلم على أمور من الغيب لا يعلم كثرتها إلا الله، فما توفي صلى الله عليه وسلم حتى لم يكن طائر يحرك جناحه إلا أعطى لأصحابه عنه علما، وبين لأصحابه جميع الفتن، وجميع ما يقع في آخر الزمان مما علمه الله من العلوم، ولكنهم نسوه.
ولكنه لا يعلم من ذلك إلا ما علمه الله كما قال جل وعلا: رسم> عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ قرآن> رسم> الآية.
أما الله جل وعلا فعلمه محيط بكل شيء يعلم ما كان، ويعلم ما لم يكن وما سيكون كيف يكون، ويعلم ما سبق في علمه أنه لا يكون. يعلم أن لو كان كيف يكون؛ فهو يعلم أن أبا لهب اسم> لن يؤمن، ويعلم لو آمن أبو لهب اسم> أيكون إيمانه تاما أو ناقصا؟
والآيات الشاهدة بهذا في القرآن كثيرة؛ فإن الكفار يوم القيامة إذا عاينوا العذاب ورأوا حقيقة الآخرة، ندموا وتمنوا أن يردوا إلى الدنيا مرة أخرى ليصدقوا الرسل ويؤمنوا؛ فقالوا: يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبُ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
في قراءة أخرى رسم> وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قرآن> رسم> والله يعلم أن هذا الرد الذي تمنوه لا يكون، ومع ذلك فهو عالم أن لو كان كيف يكون؛ ولذا قال: رسم> وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ قرآن> رسم> .
والمتخلفون عن غزوة تبوك علم الله في سابق أزله أنهم لن يحضروها أبدا؛ لأنه هو الذي ثبطهم عنها لحكمة كما قال: رسم> وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ قرآن> رسم> وخروجهم الذي سبق في علمه أنه لا يكون هو عالم أن لو كان كيف يكون كما صرح به في قوله: رسم> لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ قرآن> رسم> وهذا في القرآن كثير كقوله: رسم> وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ قرآن> رسم> .
فعلمه تعالى محيط بكل شيء. فإذا كان هذا العلم المحيط بكل شيء علم الله جل وعلا، وهو الذي فصل هذا الكتاب بهذا العلم المحيط؛ علمنا أنه ضمنه كل خير، ضمنه استجلاب كل خير والتحذير من كل شر، ورتب فيه جميع المصالح، ودرأ فيه جميع المفاسد.
ودعا فيه إلى جميع مكارم الأخلاق ومحاسن العادات ورفع الهمم، وكل شيء صالح للدنيا والآخرة في شئون الفرد وشئون المجتمع؛ كما يعرفه من تأمل آيات القرآن وتدبرها، وهذا معنى قوله: رسم> وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قرآن> رسم> .
مسألة>