السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ذكر شيخ الإسلام الخلاف بين السلف في التفسير قليل وغالبه ما صح عنهم من الخلاف أرجعه إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد، وذكر أن الاختلاف صنفان، ذكر الصنف الأول أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر مع اتحاد المسمى، وذكر له أمثلة والآن نقرأ الصنف الثاني.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للناس أجمعين وبعد:
فقال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: الصنف الثاني: أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه؛ مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى لفظ الخبز فأُرِيَ رغيفا وقيل: هذا. فالإشارة إلى نوع هذا لا إلى هذا الرغيف وحده .
مثال ذلك ما نقل في قوله: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للمحرمات، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات. فالمقتصدون هم أصحاب اليمين، والسابقون أولئك المقربون.
ثم إن كلا منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات، كقول القائل: السابق الذي يصلي في أول الوقت، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار.
أو يقول: السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة، فإنه ذكر المحسن بالصدقة والظالم بأكل الربا والعادل بالبيع. والناس في الأموال إما محسن وإما عادل وإما ظالم؛ فالسابق المحسن بأداء المستحبات مع الواجبات، والظالم آكل الربا أو مانع الزكاة، والمقتصد الذي يؤدي الزكاة المفروضة ولا يأكل الربا.
وأمثال هذه الأقاويل، وكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية؛ وإنما ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له، وتنبيهه به على نظيره. فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطابق، والعقل السليم يتفطن للنوع كما يتفطن إذا أشير له إلى رغيف فقيل له: هذا هو الخبز.
وقد يجيء كثيرا من هذا الباب، قولهم هذه الآية نزلت في كذا لا سيما إن كان المذكور شخصا كأسباب النزول المذكورة في التفسير؛ لقولهم: إن آية الظهار نزلت في امرأة أوس بن الصامت وإن آية اللعان نزلت في عويمر العجلاني أو هلال بن أمية وإن آية الكلالة نزلت في جابر بن عبد الله رضي الله عنهم.
وإن قوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ نزلت في بني قريظة والنضير وإن قوله: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ الآية نزلت في بدر وإن قوله: شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ الآية نزلت في قضية تميم الداري وعدي بن بداء .
وقول أبي أيوب إن قوله: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ نزلت فينا معشر الأنصار الحديث، ونظائر هذا كثير مما يذكرون أنه نزل في قوم من المشركين في مكة أو في قوم من أهل الكتاب اليهود والنصارى أو في قوم من المؤمنين.
فالذين قالوا ذلك لم يقصدوا أن حكم الآيات مختص بأولئك الأعيان دون غيرهم، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل على الإطلاق. والناس وإن تنازعوا في اللفظ العام الوارد على سبب هل يختص بسببه أم لا؟ فلم يقل أحد من علماء المسلمين: إن عمومات الكتاب والسنة تختص بالشخص المعين، وإنما غاية ما يقال: إنها تختص بنوع ذلك الشخص فتعم ما يشبهه، ولا يكون العموم فيها بحسب اللفظ. والآية التي لها سبب معين إن كانت أمرا ونهيا فهي متناولة لذلك الشخص ولغيره ممن كان بمنزلته، وإن كانت حضرا بمدح أو ذم فهي متناولة لذلك الشخص ولمن كان بمنزلته.
ومعرفة سبب النزول تعين على فهم الآية؛ فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، ولهذا كان أصح قول الفقهاء أنه إذا لم يعرف ما نواه الحالف رجع إلى سبب يمينه وما هيجها وأثارها.
وقولهم: نزلت هذه الآية في كذا يراد به تارة أنه سبب النزول، ويراد به تارة أن هذا داخل في الآية وإن لم يكن السبب، ويراد به تارة أن هذا داخل في الآية وإن لم يكن السبب، كما تقول: عنى بهذه الآية كذا.
وقد تنازع العلماء في قول الصاحب: نزلت هذه الآية في كذا هل يجري مجرى المسند؛ كما لو ذكر السبب الذي أنزلت لأجله، أو يجري مجرى التفسير منه الذي ليس بمسند؟ فالبخاري يدخله في المسند وغيره لا يدخله في المسند، وأكثر المسانيد على هذا الاصطلاح كمسند أحمد وغيره. بخلاف ما إذا ذكر سببا نزلت عقبه؛ فإنهم كلهم يدخلون مثل هذا في المسند.
وإذا عرف هذا فقول أحدهم: نزلت في كذا لا ينافي قول الآخر: نزلت في كذا، إذا كان اللفظ يتناولهما كما ذكرناه في التفسير بالمثال. وإذا ذكر أحدهم لها سببا نزلت لأجله وذكر الآخر سببا، فقد يمكن صدقهما بأن تكون نزلت عقب تلك الأسباب، أو تكون نزلت مرتين، مرة لهذا السبب ومرة لهذا السبب.
وهذان الصنفان اللذان ذكرناهما في تنوع التفسير تارة لتنوع الأسماء والصفات، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى وأقسامه في التمثيلات، هما الغالب في تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف.
ومن التنازع الموجود عنهم ما يكون اللفظ فيه محتملا للأمرين: إما لكونه مشتركا في اللغة كلفظ: قسورة الذي يراد به الرامي، ويراد به الأسد، ولفظ عسعس الذي يراد به إقبال الليل وإدباره، وإما لكونه متواطئا في الأصل لكون المراد به أحد النوعين أو أحد الشيئين، كالضمائر في قوله: ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى وكلفظ الفجر، والشفع، والوتر، وليال عشر، وما أشبه ذلك.
فمثل هذا قد يراد به كل المعاني التي قالها السلف، وقد لا يجوز ذلك.
فالأول: إما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذا تارة وهذا تارة، وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنيان، إذ قد جوز ذلك أكثر فقهاء المالكية والشافعية والحنبلية وكثير من أهل الكلام، وإما لكون اللفظ متواطئا، فيكون عاما إذا لم يكن لتخصيصه موجب، فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني.
ومن الأقوال الموجودة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافا أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة لا مترادفة؛ فإن الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر، وإما معدوم، وقل أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه؛ بل يكون فيه تقريب لمعناه، وهذا من أسباب إعجاز القرآن.
فإذا قال القائل: يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا إن المور هو الحركة كان تقريبا، إذ المور حركة خفيفة سريعة. وكذلك إذا قال الوحي: الإعلام، أو قيل: أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أنزلنا إليك أو قيل: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ أي: أعلمنا، وأمثال ذلك - فهذا كله تقريب لا تحقيق، فإن الوحي هو إعلام سريع خفيف، والقضاء إليهم أخص من الإعلام، فإن فيه إنزالا إليهم وإيحاء.
والعرب تُضَمِّن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته، ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض، كما يقولون في قوله: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ أي: مع نعاجه، و مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ أي مع الله ونحو ذلك. والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين، فسؤال النعجة يتضمن جمعها وضمها إلى نعاجه.
وكذلك قوله: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ضمن معنى يزيغونك ويصدونك، وكذلك قوله: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ضمن معنى نجيناه وخلصناه، وكذلك قوله: يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ضمن يروى بها ونظائره كثيرة.
ومن قال: لَا رَيْبَ لا شك فهذا تقريب، وإلا فالريب فيه اضطراب وحركة كما قال: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك وفي الحديث: أنه مر بظبي حاقف فقال: لا يريبه أحد فكما أن اليقين ضمن السكون والطمأنينة، فالريب ضده ضمن الاضطراب والحركة ونحوه الشك.
وإن قيل: إنه يستلزم هذا المعنى لكن لفظه لا يدل عليه، وكذلك إذا قيل: ذَلِكَ الْكِتَابُ هذا القرآن، فهذا تقريب لأن المشار إليه وإن كان واحدا فالإشارة بجهة الحضور غير الإشارة بجهة البعد والغيبة، ولفظ الكتاب يتضمن من كونه مكتوبا مضموما ما لا يتضمنه لفظ القرآن من كونه مقروءا مظهرا باديا، فهذه الفروق موجودة في القرآن.
فإذا قال أحدهم: أَنْ تُبْسَلَ أي تحبس، وقال الآخر: ترتهن، ونحو ذلك لم يكن من اختلاف التضاد، وإن كان المحبوس قد يكون مرتهنا وقد لا يكون، إذ هذا تقريب للمعنى كما تقدم.
وجميع عبارات السلف في مثل هذا نافع جدا؛ لأن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين.
ومع هذا فلا بد من اختلاف محقق بينهم كما يوجد مثل ذلك في الأحكام، ونحن نعلم أن عامة ما يقر إليه عموم الناس من الاتفاق معلوم؛ بل متواتر عند العامة أو الخاصة، كذا في عدد الصلوات ومقادير ركوعها ومواقيتها، وفرائض الزكاة ونُصُبها، وتعيين شهر رمضان والطواف والوقوف ورمي الجمار والمواقيت وغير ذلك.
ثم إن اختلاف الصحابة في الجد والإخوة وفي المُشَرَّكة ونحو ذلك لا يوجب ريبا في جمهور مسائل الفرائض، بل فيما يحتاج إليه عامة الناس، وهو عمود الناس من الآباء والأبناء والكلالة من الإخوة والأخوات ومن نسائهم كالأزواج؛ فإن الله أنزل في الفرائض ثلاث آيات منفصلة: ذكر في الأولى الأصول والفروع، وذكر في الثانية الحاشية التي ترث بالفرض كالزوجين وولد الأم، وفي الثالثة الحاشية الوارثة بالتعصيب وهم الإخوة لأبوين أو لأب. واجتماع الجد والإخوة نادر ولهذا لم يقع في الإسلام إلا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم.
والاختلاف قد يكون لخفاء الدليل والذهول عنه، وقد يكون لعدم سماعه، وقد يكون للغلط في فهم النص وقد يكون لاعتقاد معارض راجح، فالمقصود هنا التعريف بمجمل الأمر دون تفاصيله.