القلوب أوعية؛ منها ما يستوعب الخير، ومنها ما يستوعب الشر. وأفضل القلوب هي التي تمتلئ بالخير،تمتلئ بالعلم وتمتلئ بالدين والعبادة، تمتلئ بالعلم النافع والعقيدة السليمة، هذه هي القلوب الواعية، وهي أرجى القلوب لتحصيل الخير إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم. تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة)
شرح مقدمة التفسير لابن تيمية
83799 مشاهدة
أمثلة من التأويلات الباطلة

يقول: مثاله ما يقع. وهذا كما أنه وقع في تفسير القرآن فقد وقع أيضا في تفسيرهم للأحاديث، حيث حملوها على محامل بعيدة، فالذين أخطأوا في الدليل والمدلول مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذهبا يخالف الحق الذي عليه الأمة الوسط وهم أهل السنة والجماعة. اعتقدوا مذاهب تخالف مذهب أهل الحق؛ الأمة الوسط الذين لا يجتمعون على ضلالة كسلف الأمة وأئمتها، وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على آرائهم. تركوا الحق الذي عليه السلف، ولما اعتقدوا عقائد منحرفة تأولوا القرآن على آرائهم وعلى أهوائهم، تارة يستدلون بالآيات على مذهبهم ولا دلالة فيها.
ومن التفاسير التي أشرنا إليها سابقا تفسير مطبوع باسم متشابه القرآن للقاضي عبد الجبار الذي يأتينا ذكره قريبا. هذا التفسير حققه أحد العلماء الذين يتسمون بالعلم في سوريا واسمه عدنان زرزور وملأه بالزور. فمثال ذلك أنه إذا جاء إلى آية فيها إثبات الصفات سلط عليها التأويل، وإذا جاء إلى آية يظهر فيها استدلالهم.
يقول: لنا قول الله تعالى؛ فيذكر ما يستدلون به، كقوله تعالى في سورة الأنعام: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ فإنه حمل الإدراك على الرؤية؛ لأنهم يعتقدون أن الله لا يرى، والإدراك عند العرب غير الرؤية، وهو شيء زائد عليها؛ لقوله تعالى: فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ يعني: محاط بنا، فـ قَالَ كَلَّا فدل على أن هناك رؤية وهناك إدراك.
ولكن المعتزلة لما كانوا يعتقدون عقائد حملوا الآيات ما لا تحتمله ؛ لتدل على معتقدهم. يقول: وتارة يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ كل آية تخالف معتقدهم يسلطون عليها التأويلات؛ مثل قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ يعني رأيت لبعضهم قولا: إن إِلَى رَبِّهَا يعني نعمة ربهم فجعلوا إلى اسما لا حرفا نعمة ربهم، وهذا تأويل بعيد عما يقتضيه سياق الآية، كل ذلك ليخرجوا عن دلالة الآية على إثبات الرؤية.
وتأويلهم وكذلك تأويل الأشاعرة لآيات المجيء وَجَاءَ رَبُّكَ أي: جاء أمره، وأشباه ذلك. يتأولون ما يخالف مذهبهم بما يحرفون به الكلم عن مواضعه. مَثَّلَ به ركب الخوارج والروافض والجهمية والمعتزلة والقدرية والمرجئة، فيقول ابن عباس في الخوارج: إنهم نظروا إلى آيات نزلت في الكفار فحملوها على المؤمنين؛ وهذا أيضا من التحريف. فمثلا اعتقادهم أن المعاصي يخلد بها في النار، فيستدلون بمثل قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا هذا في الكفار المشركين، وأما العصاة إذا دخلوا النار فإنهم يخرجون منها كما ورد ذلك في السنة.
ويستدلون بقوله تعالى: كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وهذا في الكفار، وأشباه ذلك فهؤلاء يحرفون الكلم عن مواضعه.
وكذلك الروافض ويأتينا لهم تأويلات عجيبة، وكذلك الجهمية أتباع الجهم وهو اعتقد ثلاث عقائد من البدع: اعتقد التعطيل واعتقد الجبر واعتقد الإرجاء. فهو يقول بالإرجاء يعني تغليب جانب الرجاء، ويقول بالجبر إن العباد مجبورون على أعمالهم ليس لهم اختيار، ويقول بالتعطيل أي أن الله تعالى ليس له صفات، فيعطل الله تعالى عن صفات الكمال، وتفرق مذهبه في هذه المذاهب وأكثره في المعتزلة. المعتزلة هم الذين انتشر مذهبهم ويأتينا أصولهم. والقدرية أيضا يغلب أنهم أيضا من المعتزلة، أكثر ما يطلق قدرية على المعتزلة الذين ينكرون قدرة الله على أفعال العباد.
ويدخل في القدرية الغلاة الذين يحتجون بالقدر على المعاصي، فإنهم أيضا قدرية؛ يعني القدرية قسمان: قدرية النفاة وقدرية المجبرة.
والمرجئة الذين يغلبون جانب الرجاء، فيتأولون الآيات التي في الوعيد؛ لأن من عقيدتهم أن أهل المعاصي لا يدخلون النار؛ ولو عملوا ما عملوا، ويقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب، كما لا ينفع مع الشرك عمل. هذا معتقدهم، وقياسهم قياس فاسد، بل المعاصي تضر، ولو قيل ذلك لرخص للناس في فعل المعاصي والمحرمات، مع ما ورد فيها من الوعيد.
ثم مَثَّل يقول: كالمعتزلة مثلا، فإنهم من أعظم الناس كلاما وجدالا يعني انتشرت مؤلفاتهم وكثر جدالهم، ويحصل الجدال الكثير بينهم وبين الأشاعرة، والأشاعرة يدعي من يعتقد معتقدهم أنهم أهل السنة مع المخالفة لهم، يعني بينهم وبين مذهب السلف مخالفات كثيرة، ومع ذلك فإن بينهم وبين الأشاعرة جدالا وخصومات ومنازعات.
يقول: وقد صنفوا التفاسير على أصول مذهبهم، يعني صنفوا على أصول مذهبهم تفاسير، وكذلك مؤلفات؛ مثل تفسير عبد الرحمن بن كيسان الأصم شيخ إبراهيم بن إسماعيل بن علية الذي كان يناظر الشافعي فهذا عبد الرحمن بن كيسان كان شيخا لإبراهيم إبراهيم هذا أبوه العالم المشهور إسماعيل ابن علية من الحفظة ومن علماء السلف، يروي عنه أهل الصحيحين كثيرا. أما إبراهيم ابنه فيمكن أنه تأثر بشيخه، الذي هو هذا الأصم والذي كان يناظر الشافعي يعني مناظرات جدلية.
ومثل أبي علي الجبائي وهو من رءوس المعتزلة، وكذلك ابنه أبو هاشم الجبائي من رءوس المعتزلة ومشاهيرهم. ومثل التفسير الكبير للقاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني وهو شيخ مذهبهم. الهمداني هذا له مؤلفات كبيرة وكثيرة، وأشهرها كتابه الذي سماه المغني، طبع محققا في سوريا في أربعة عشر مجلدا في معتقد المعتزلة وفي تأويلاتهم للأدلة وفي نصر عقائدهم.
ولعبد الجبار هذا الكتاب الذي أشرنا إليه قريبا والذي سماه متشابه القرآن والذي حققه زرزور في مجلدين، وله أيضا كتابه الذي سماه الأصول الخمسة التي هي أصول المعتزلة، وله مؤلفات كثيرة. فهو الذي ألف لهم ومكن لهم. ومن المعتزلة أيضا أبو الحسين البصري عالم من علماء النحو، ولكنه من المتأثرين بهؤلاء فله أقوال في نصر المذهب الاعتزالي، وله تأويلات أيضا ومجادلات أبو الحسين البصري .
وكذلك التفسير المشهور أيضا لعلي بن عيسى الرماني ولا أذكر أنه موجود، والتفسير الذي لأبي القاسم الزمخشري وهو أشهرها والذي يسمى الكشاف عن تأويل القرآن. وهذا الزمخشري من مشاهير علماء المعتزلة، لغوي فصيح جدلي عارف بمفردات اللغة، وله كتب في اللغة مشهورة. وأشهر كتبه هذا الكشاف، وقد ذكر فيه تأويلات كثيرة تتعلق بمذهبه. يدخل مذهبه الذي هو الاعتزال في هذا التفسير إدخالا خفيا، حتى قال بعضهم: أخرجت الاعتزال من الكشاف بالمناقيش، يعني لا يخرج إلا بأشياء خفية، استنبطوا منه ما يدل على معتقده بإشارات خفية.
حتى لما ذكر قول الله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ قال: ولا فوز أكبر من دخول الجنة، ظاهر هذا أنه كلام لا بأس به ولكن يريد بذلك نفي صفة الرؤية، أن الله تعالى لا يرى؛ لأن الرؤية في الجنة أعظم نعيمهم، فكأنه يقول: هذا منتهى الفوز، منتهى الفوز دخول الجنة، لا فوز غير ذلك فيستنبط منه هذا الاستنباط الخفي.
وكذلك كثير من الآيات يحملها ما لا تحتمل سيما على مذهبهم من إسناد الأفعال إلى العباد وعدم قدرة الله تعالى عليها.
وقد رد عليه صاحب الانتصاف، كتاب معلق عليه سماه الانتصاف من الكشاف، وهو لم يستوف ما يُنتقَد عليه إلا في مذهب القَدَر وفي مذهبه بعض الكلمات، فصاحب الانتصاف أشعري، فلأجل ذلك لم ينتقده بالصفات التي اتفق مذهب الأشاعرة ومذهب المعتزلة على ما فيها فيقره على تفسير قوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أي: أمر الله، ويقره على تفسير المحبة وصرفها عن ظاهرها، كقولهم: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ أي لا يريده، يستدلون بذلك على أن الله تعالى لا يخلق أفعال العباد ويفسرون المحبة بالإرادة وهو تفسير بعيد، وأشباه ذلك.