جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. إذا كان عقل المريض معه وفهمه وإدراكه فإن الأوامر والأحكام الشرعية تنطبق عليه، ويكلف بالصلاة والصوم والطهارة ونحوها بحسب القدرة، ويجوز مساعدته على الطهارة إن قدر على غسل أعضائه، فإن عجز عن استعمال الماء في أعضائه وشق غسلها عليه عدل إلى التيمم، فإن عجز فإن المرافق يقوم بذلك بأن يضرب التراب فيمسح وجهه وكفيه مع النية. إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه القلوب أوعية؛ منها ما يستوعب الخير، ومنها ما يستوعب الشر. وأفضل القلوب هي التي تمتلئ بالخير،تمتلئ بالعلم وتمتلئ بالدين والعبادة، تمتلئ بالعلم النافع والعقيدة السليمة، هذه هي القلوب الواعية، وهي أرجى القلوب لتحصيل الخير (يجب) على الوالد التسوية بين أولاده في العطية والتمليك المالي، (ويستحب) له التسوية في المحبة والرعاية، لكن إذا كان فيهم من هو معاق أو مريض أو صغير ونحوه فالعادة أن يكون أولى بالشفقة والرحمة والرقة. وقد سئل بعض العرب: من أحب أولادك إليك؟ فقال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يقدم.
شرح مقدمة التفسير لابن تيمية
83879 مشاهدة
العرب تضمن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته

وكذلك الوحي يفسر بأن الوحي هو الإعلام لقوله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ لأن الوحي هو الإعلام، أو أوحينا إليك أو أنزلنا إليك، فهذا أيضا مثال، كذلك إذا قيل: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ قضينا أي أعلمنا، وأمثال ذلك فهذه كمثال، يعني هذه تقريب لا تحقيق يقول: فإن الوحي إعلام سريع خفي، الوحي عند العرب حركة خفيفة سريعة أو كلام خفي سريع، ففسره بعضهم بالإعلام وبعضهم بالإنزال، ولا يراد بذلك جميع معاني الوحي كذلك وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ أي أعلمنا، القضاء أخص من الإعلام فإن فيه إنزالا إليهم وإيحاء إليهم، فيكون هذا كمثال، العرب تضمن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته ، يعني كلمة فإذا قضيتم الصلاة الكلمة معناها انتهيتم منها وفرغتم منها، القضاء هنا معناه الانتهاء، وكذلك قوله: وَقَضَى رَبُّكَ أي أمر ووصى، القضاء هنا بمعنى الأمر، وكذلك قوله: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ أي أعلمناهم وأنزلنا عليهم، فالقضاء كلمة لها عدة معان، العرب تضمن الفعل معنى الفعل وتعديه تعديته، كلمة القضاء هنا هو الوحي.
ومن هنا غلط من جعل بعض الحروف تقوم مقام بعض، وليس كذلك، بل الحروف تتفاوت معانيها، ولو زعم بعضهم أنها مترادفة فإن كلمة حتى قد تأتي بمعنى إلى لا مطلقة وحرف إلى للانتهاء ولكن الانتهاء بحد محدود، وأشباه ذلك كما يقولون: في قوله تعالى: لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ كلمة إلى ليست للانتهاء هنا جعلوها بمعنى مع نعاجه، وفسرت بأن معناها أن يضم نعجتك إلى نعاجه ضمها إليها يعني أضافها إليها، وكقوله: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ إلى فسرت بمعنى مع أي مع الله، والتحقيق ما قاله نحاة البصرة من التضمين يعني مضمومة إلى نعاجه يعني سؤال النعجة يتضمن جمعها وضمها إلى نعاجه.
وكذلك قوله تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ يفتنونك فسر بأن معناها يزيغونك وفسر بأنه يصدونك والفتنة في الأصل هي الاختبار كقوله وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وبذلك تفسر الفتنة، وتفسر الفتنة بالشرك كقوله تعالى: ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وكقوله تعالى: أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فيفتنونك يعني يختبرونك ويزيغونك ويصدونك ونحو ذلك من المعاني تدخل في الفتنة.
وكذلك قوله: وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ما معنى نصرناه؟ فسر بأنه نجيناه وخلصناه، فهو فعل يتضمن معنى فعل آخر وكذلك قوله يعني عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ قيل: كيف يشرب بها؟ العادة أنهم يجعلون الباء على الإناء مثلا أو على الآلة كقوله: ضربه بالعصا أو ضربه بالحجر، وأما شرب بها فإن هذا غير مستعمل، ولكن قالوا: إن معناه أنه ضمن فعلا آخر تقديره يروى بها عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا يروى بها، ونظائره كثيرة.
فمن قال: لا ريب في قوله تعالى: ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ لا شك فيه الريب هو الشك فهذا تقريب، وإلا يقول الريب فيه اضطراب وحركة، الريب هو الحركة والاضطراب في العقيدة كما في الحديث: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك حديث حسن مشهور وهو من جملة الأحاديث الأربعين النووية، وفي الحديث أنه صلى الله عليه وسلم مر بظبي حاقف، يعني لما كانوا محرمين هذا في عمرة الحديبية حاقف يعني مصاب أو يعني مضروب بنبل أو بسهم فقال: لا يريبه أحد وأوقف عنده رجلا يحميه لا أحد يريبه يعني لا أحد يؤذيه، فالريب هو الحركة فقوله: لَا رَيْبَ فِيهِ فسر بمعنى لا شك فيه أو لا توقف.
كما أن اليقين يضمن معني السكون والطمأنينة، يقول مثلا لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ تطمئنون إليها تسكنون إليها وكذلك قوله: وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ أي توقنون به تتحققونه، فكما أن اليقين يضمن معنى السكون والطمأنينة فالريب ضده يضمن معنى الاضطراب والحركة، فيضمن فعل معنى فعل آخر، كذلك لفظ الشك وإن قيل إنه يستلزم هذا المعنى لكنه لا يدل عليه، الشك في الأصل هو معنى من معاني التوقف، وعدم اليقين هو الشك.
كذلك إذا قيل ذَلِكَ الْكِتَابُ في أول سورة البقرة هذا القرآن، الأصل أن ذلك إشارة إلى الشيء البعيد ولكن القرآن حاضر وكيف أشير إليه بلفظ البعد؟ ذلك الكتاب يقولون إنها للتقريب، يعني تفسيره بكلمة هذا تقريب لأن المشار إليه وإن كان واحدا فالإشارة بنية الحضور غير الإشارة بنية البعد والغيبة، والعرب أيضا تعرف ذلك، يعني قد يشيرون بلفظ ذلك إلى شيء قريب، استشهد ابن جرير بالبيت الذي قاله خفاف بن ندبة السلمي في قوله:
.....................................
تـأمـل خفافـا إننـي أنـا ذلـك
يعني إنني أنا هذا.
لفظ الكتاب يتضمن مع كونه مكتوبا ما لا يتضمنه لفظ القرآن من كونه مقروءا مظهرا باديا، يعني يسمى القرآن بلفظ الكتاب يتضمن زيادة على كلمة القرآن؛ لأنه يتضمن أنه مكتوب والقرآن يتضمن أنه مقروء؛ فكونه يتضمن مكتوبا مضموما يعني يضم بعض حروفه إلى بعض إنما يدل على ما لا يدل عليه لفظ القرآن؛ لفظ القرآن تدل على كونه مقروءا مظهرا باديا؛ لأجل ذلك كل لفظة تدل على معنى آخر، يقول فهذه الفروق موجودة في القرآن.
ثم مثل أيضا بقوله تعالى: أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ في سورة الأنعام، تبسل أي تحبس هذا مثال أن تبسل وآخرون قالوا: تبسل أي ترتهن والرهن أيضا شبيه بالحبس، وفسرت تبسل بمعنى تُسْلَم يعني تسلم أي يسلمها صاحبها بحيث إنه: لا يستطيع أن يتخلص، في الحديث: المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه يعني لا يسلمه لأعدائه، هذا ليس اختلاف تضاد ولكنه اختلاف تنوع. يقول: وإن كان المحبوس قد يكون مرتهنا وقد لا يكون، تحبس ترتهن تسلم، هذا تقريب للمعنى كما تقدم.
وجميع عبارات السلف في مثل هذا نافع جدا فإن مجموع عباراتهم أدل على المقصود من عبارة أو عبارتين، فيقولون: هذا كلام فيه خلاف محقق بينهم، كما يوجد مثل ذلك في الاختلاف فكثيرا ما يوجد اختلاف تضاد لا يمكن الجمع بينهما، ولهذا فابن جرير رحمه الله يذكر أمثلة ثم تكون تلك الأخبار متضادة فيكون الصواب هو المختار، قولهم قال كذا وكذا فإذا كانت متضادة أو متقاربة، فمثلا تفسير قوله تعالى: وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ ففسرها بعضهم بأن الخيل المسومة هي الراعية، ومنه قوله تعالى: وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ والسائمة هي الراعية، وفسرت المسومة بأنها هي المعلمة المحسنة من السيماء، وفسرها بعضهم بأنها المعدة للقتال فجمع ابن جرير بين التفسيرين وقال إنهما بمعنى، ورد القول الثالث الذي فسرها بأنها المعدة للقتال.
كذلك أيضا فسر القنطار في قوله تعالى وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا بتفاسير متباينة، فسره بعضهم بأنه ثمانون ألفا وفسره بعضهم بأنه ملء مسك ثور ذهبا وفسره بعضهم بأنه عشرون ألفا، ولا يمكن الجمع بينهم فجمع بينهم ابن جرير أن المراد بالقنطار المال الكثير من غير أن يحدد بحد، كذلك أيضا يكثر تفسير بعض الكلمات العربية التي كانوا في الجاهلية يختلفون في تفسيرها مثل تفسيرهم لقوله تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ ذكروا فيها عدة أقوال، ولكن حيث إنها من الأمور الجاهلية لم يحتج إلى ترجيح بعضها من بعض، وأشباه ذلك.