شرح مقدمة التفسير لابن تيمية
القرائن على عدم الكذب أو الخطأ في الحديث
مثل إذا كان الحديث جاء من جهتين أو من جهات متعددة وقد علم أن المخبرين لم يتواطآ على اختلاقه، يعني: جاء بإسناد كلهم مدنيون، وجاء بإسناد آخر كلهم مصريون، فكيف يتفقان على اختلاق هذا الحديث مع تباين وتباعد ما بينهما؟! وعلم أن مثل ذلك لا تقع الموافقة فيه اتفاقا بلا قصد، علم أنه صحيح جاء من طريقين عن صحابيين متباعدين.
مثاله شخص يحدث عن واقعة جرت ويقول: تفاصيل ما فيها من الأقوال والأفعال، ويأتي شخص آخر قد علم أنه لم يواطئ الأول، فيذكر مثل ما ذكره الأول من تفاصيل ما فيها من الأقوال والأفعال، فيعلم قطعا أن تلك الواقعة حق في الجملة، يعني إذا حدثوا مثلا عن واقعة في غزوة مثلا فتح دمشق اسم> واحد من أهل مصر اسم> وواحد من أهل مكة اسم> تلاميذ هذا مكيون وتلاميذ هذا مصريون، وأخبروا بالقصة فقالوا: مثلا: إنه لما حوصرت هذه المدينة شددوا الحصار عليها، وأن بعضا من الصحابة دخلوا من جهةٍ عنوة، وبعضا منهم دخلوا من جهةٍ صُلحا، وأخبروا بقصة طويلة، هذا خبره مطابق لهذا فكيف يقال: إنهما توافقا على اختلاق هذه القصة؟ هذا يبين أن القصة واقعية وأنها صحيحة؛ فإنه لو كان كل منهما كذبها عمدا أو خطأ لم يتفق في العادة أن يأتي كل منهما بتفاصيل هذه القصة، تلك التفاصيل التي تمنع العادة اتفاق اثنين بلا مواطأة من أحدهما لصاحبه، يعني لو كان كاذبا استبعد أن يتفق عليها اثنان، يرويها هذا المصري سواء بسواء ثم يرويها المكي سواء بسواء لا يزيد هذا على هذا شيئا وإن اختلفا في التعبير ولكن المعنى واحد، فكيف يتفقان على اختلاق هذه القصة الطويلة؟
يقول: الرجل قد يتفق أن ينظم بيتا وينظم الآخر مثله، يعني إذا كان مثلا حدث أن معنى من المعاني خطر ببال هذا وهذا فنظم فيه بيتا ونظم هذا فيه بيتا قد يتقارب البيتان، وقد يكون المعنى متفقا وإن اختلف اللفظ، ولكن إذا أنشأ قصيدة طويلة ذات قيود على قافية وروي، لم تجر العادة بأن غيره ينشئ مثلها لفظا ومعنى مع الطول المفرط؛ بل يعلم بالعادة أنه أخذها منه، فمثلا أنشأ هذا قصيدة قدرها مائة بيت ثم جاء بها آخر على لفظها وعلى معناها، فحققنا أن هذا الثاني سرقها من الأول وأنه أخذها منه لا يمكن أن هذا نظم وهذا نظم واتفقا في الروي واتفقا في المعنى واتفقا في القافية هذا شيء مستبعد عادة، وإن كان بعضهم قد يفعل ذلك ولكن الظاهر أن هذا تمثيل.
الحريري اسم> في المقامات يعني عادة أنه يضرب أمثالا فذكر قصة أن اثنين جاءا إليه كل واحد منهما نظم قصيدة، وقال الآخر: إنه سرقها مني؛ فقال الآخر: إني ما سرقتها؛ ولكن نظمتها كما تيسر لي، وكان أحدهما نظمه ثلاثي والآخر رباعي القصيدة التي يقول فيها:
إيــاك والدنيـا الدنيـة إنهـا | شـرك الـردى وجلائل الأخـطار |
دار متى ما أضحكت في يومـها | أبكـت غـدا تبـا لهـا مـن دار |
آفاتهـا لا تنقضـي وأسـيرها | لا يفتــدى بجــلائـل الأخـطار |
قلبـت له ظهر المجن وأولغـت | فيــه المُـدى ... لأخـذ الثـار |
إيــاك والدنــيا الدنيـــة | إنهــا شـــرك الـــردى |
دار متــى مــا أضحــكت | فـي يومهــا أبكـت غــدا |
آفاتهــــا لا تنقضــــي | وأســـيرهـا لا يفتـــدى |
قلبـت لــه ظهــر المجـن | وأولغــت فيـــه المُــدى |
وهناك قصص يعني تتقارب كما ذكروا أن هارون الرشيد اسم> قال لبعض الشعراء حوله: من ينشدني شعرا يتضمن قوله: كلام الليل يمحوه النهار، فكل واحد منهما أنشأ ثلاثة أبيات مختومة بقول: كلام الليل يمحوه النهار ولكن مع ذلك تفاوتت الكلمات، والقصص كثيرة.
يقول: وكذلك إذا حَدَّثَ هذا حديثا طويلا فيه فنون ، وحدث آخر بمثله، فإنه إما أن يكون واطأه عليه أو أخذه منه، أو يكون الحديث صدقا، يكثر في المتأخرين سرقة الحديث، فيقال: هذا سرق حديث فلان مع أنه أتى به يعني بلفظه مما يدل على أنه سرقه، سيما إذا كان هذان ضعيفين؛ اللذان حدثا بهذا الحديث عن فلان الثقة، وكانا ضعيفين علم أن أحدهما سرق الحديث عن الآخر.
وكثيرا ما يقال: فلان معروف بسرقة الحديث. يقول: وبهذه الطريق يعلم صدق عامة ما تتعدد جهاته المختلفة على هذا الوجه من المنقولات. إذا كانت متعددة الطرق ومتعددة الأسانيد فإنه يعلم صدقها على هذا الوجه من المنقولات وإن لم يكن أحدها كافيا، إذ لو كان إسنادا واحدا لم يكن كافيا؛ لأنه قد يكون مرسلا وقد يكون فيه ضعيف؛ لكن مثل هذا لا تنضبط به الألفاظ والدقائق التي لا تعلم بهذه الطريق، فلا يحتاج ذلك إلى طريق يثبت بها مثل تلك الألفاظ والدقائق، فإذا كان الحديث الفرد لا يقبل فسبب ذلك أي قال: إن فيه سقطا، إن فيه إرسالا، إن فيه ضعيفا؛ لأن الطعن إما أن يكون بسقط أو بطعن.
يقول: ولهذا ثبتت بالتواتر غزوة بدر وأنها قبل غزوة أحد، ثبتت يعني وإن لم تكن الأسانيد واضحة، ولكن لما نقلها هؤلاء الكثيرون علمنا صدقها وحقيقتها وأشير إليها أيضا في القرآن يقول: بل يعلم قطعا أن حمزة اسم> وعليا اسم> وعبيدة اسم> أنهم برزوا إلى عتبة اسم> وشيبة اسم> والوليد اسم> يعني: ذكر ذلك علي اسم> في تفسير قول الله تعالى رسم> هَذَانِ خَصْمَانِ قرآن> رسم> قال: أنا أول من يجثو بين يدي الله تعالى للخصام، نزلت في وفي حمزة اسم> وعبيدة بن الحارث اسم> نزلت فينا، ذلك لأنه برز ثلاثة من المشركين عتبة بن ربيعة اسم> وشيبة بن ربيعة اسم> والوليد بن عتبة اسم> فقالوا: من يبرز لنا، برز لهم ثلاثة من الأنصار فقالوا: أكفاء كرام إنما نريد قومنا، فبرز لهم حمزة اسم> وعلي اسم> وعبيدة اسم> يظهر أن عليا اسم> قتل عتبة اسم> وحمزة اسم> قتل شيبة اسم> وأما الوليد اسم> وعبيدة اسم> فاختلفا ضربتين؛ فضرب كل منهما الآخر فأوحاه ثم إن عليا اسم> وحمزة اسم> جاءا إلى عبيدة اسم> وقتلا الوليد اسم> ما ذكر من أن عليا اسم> قتل الوليد اسم> يعني: دفف عليه، بعدما جرحه عبيدة اسم> وحمزة اسم> قتل شيبة اسم> وعلي اسم> قتل عتبة اسم> ويشك في كونه هل هو عتبة اسم> أو شيبة اسم> .
مسألة>