شرح مقدمة التفسير لابن تيمية
الرجوع في أي علم لأهله
يقول: والناس في هذا الباب طرفان: طرف من أهل الكلام ونحوهم ممن هو بعيد عن معرفة الحديث وأهله، لا يميزون بين الصحيح والضعيف فيشكون في صحة الأحاديث الصحيحة أو في القطع بها مع كونها معلومة مقطوعا بها عند أهل العلم.
وذلك لعدم صناعتهم للحديث ومعرفتهم بطرقه، وإنما يقيسون الأحاديث بآرائهم فما يوافق آراءهم يجزمون بصحته ولو كان ضعيفا، وما لا يوافقها يجزمون بأنه غلط أو ضعيف ولو كان صحيحا؛ فليسوا من أهل الحديث. تجدون هذا كثيرا في كتب المتكلمين، قد يجزمون بالحديث أنه صحيح مع كونه ضعيفا، وبالعكس يضعفون الحديث الذي لا يوافق آراءهم مع كونه صحيحا ولكل صنعة، فالمحدثون صنعتهم الحديث يعرفون به، وهؤلاء المتكلمون صنعتهم العقول ما يوافق عقولهم يقبلونه.
يقول: وطرف ممن يدعي اتباع الحديث والعمل به، كلما وجد لفظا في حديث قد رواه ثقة، أو رأى حديثا بإسناد ظاهره الصحة، يريد أن يجعل ذلك من جنس ما جزم أهل العلم بصحته، حتى إذا عارض الصحيح المعروف؛ أخذ يتكلف له التأويلات الباردة، أو يجعله دليلا له لمسائل العلم، مع أن أهل العلم بالحديث يعرفون أن مثل هذا غلط.
يحدث أن كثيرا من الذين لم يكن الحديث صناعتهم يرى أحدهم رواية في حديث قد حكم العلماء بأنها غلط ثم يصححها ثم يتكلف في الجمع بينها وبين الروايات، أو يجعلها صفة من الصفات.
يذكرون من صلاة الخوف أمثلة كثيرة، لكن الصحيح منها خمس صفات، لكن بعض العلماء كلما روى أو وقف على رواية فيها نوع مخالفة جعلها سادسة، ثم يرى رواية أخرى هي نوع مخالفة يسيرة ويجعلها سابعة وثامنة وتاسعة، فيجعل هذه الصفات متعددة وهذا غلط، نقول: إنها محصورة مثلا في خمس صفات، وإن هذه الرواية محمولة على أن هذه اللفظة غلط من بعض الرواة، فلا تجعل صفة أخرى، ولا يتكلف فيها.
وهكذا مثلا أحاديث الإسراء، وقع في كثير منها غلط، فيرى بعضهم رواية تخالف رواية أخرى، جعل الإسراء مرتين والمعراج مرتين، ثم يرى رواية أخرى فيها شيء من المخالفة، فيجعل المعراج ثلاث مرات، ثم يرى رواية أخرى فيجعل المعراج أربع مرات، وهكذا وذلك لعدم معرفتهم بصنعة الحديث، فالأولى أن نقول: هذه غلط فيها هذا الراوي؛ أبدل لفظة بدل لفظة أو هذه منام وليست هي المعراج أو ما أشبه ذلك.
مسألة>