شرح مقدمة التفسير لابن تيمية
تفسير القرآن بالسنة
يقول بعد ذلك: إن أعياك ذلك؛ فعليك بالسنة، فإنها شارحة للقرآن موضحة له. يقول شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية لما ذكر الآيات في الصفات؛ قال: فصل في السنة. ثم قال: فالسنة تفسر القرآن؛ تفسر القرآن وتبينه وتدل عليه وتعبر عنه. والمراد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه أنزل الله تعالى عليه القرآن، وأمره أن يبينه، بل الله تعالى بينه له، في قوله تعالى: رسم> فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ قرآن> رسم> فالله تعالى يبينه لنبيه إما بالبيان الواضح بأن يشرح له، وإما بأن يفهمه معانيه؛ حتى يعرف دلالاته، وحتى يعرف محتوياته، ثم هو بعد ذلك يبينه لأصحابه سواء بالقول أو بالفعل.
لما أخبرهم عن القدر وأنه ما منكم من أحد إلا كتب مقعده من الجنة والنار. قالوا: أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ قال: رسم> اعملوا فكل ميسر لما خلق له متن_ح> رسم> ثم قرأ رسم> فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى قرآن> رسم> الآيات، فبين أن هذا معنى التيسير؛ يعني أن قوله: رسم> فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى قرآن> رسم> ؛ يعني نوفقه لأن يعمل العمل الصالح الذي يكون له يسرى، والآخر نخذله ونكله إلى نفسه؛ فيكون ذلك من التيسير للعسرى رسم> فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى قرآن> رسم> وهذا تفسير من النبي صلى الله عليه وسلم، والأمثلة كثيرة.
فإذا جاءت الآيات التي في الصفات وجدنا مثلها أيضا في القرآن، ووجدنا مثلها أيضا في السنة، فالآيات التي مثلا فيها قوله تعالى: رسم> أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ قرآن> رسم> .. في سورة الملك. فسر ذلك بآيات أخرى؛ مثل قوله تعالى: رسم> وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ قرآن> رسم> ؛ أي على جذوع النخل، وقوله: رسم> فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ قرآن> رسم> ؛ أي على الأرض، فيكون المعنى رسم> فِي السَّمَاءِ قرآن> رسم> ؛ أي على السماء.
وفسر أيضا أو بين مثله في السنة؛ مثل قوله: رسم> ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء، يأتيني خبر السماء صباحا ومساء متن_ح> رسم> ومثلا جاء في القرآن ذكر اليد لله تعالى في قوله تعالى: رسم> قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ قرآن> رسم> وفي قوله تعالى: رسم> بِيَدِكَ الْخَيْرُ قرآن> رسم> وجاء ذكر اليمين: رسم> وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ قرآن> رسم> ففسرت اليد بأنها اليمين، وجاءت أيضا في السنة في قوله صلى الله عليه وسلم: رسم> يمين الله ملأى متن_ح> رسم> وفي قوله: رسم> المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين مباركة متن_ح> رسم> ؛ إلى آخره، فجاء في السنة مثل ما جاء في القرآن.
فعرف بذلك أن أفضل ما يفسر به القرآن الأحاديث النبوية ؛ فإنها تفسر القرآن وتبينه وتوضحه. ومن أراد الأمثلة يجدها في تفسير ابن كثير اسم> كثيرة، يقول: وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي اسم> رحمه الله: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن؛ وذلك لأن الله تعالى علمه البيان علمه بيانه بقوله رسم> ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ قرآن> رسم> فكل ما حكم به فإنه مما ألهمه الله تعالى، وأوحاه إليه، وقذف به في قلبه، وعلمه إياه أو فهمه من كلام الله.
ذكر بعد ذلك هذه الآيات للاستدلال بها على أنه صلى الله عليه وسلم مكلف أن يبين للناس القرآن. فالآية الأولى في سورة النساء: رسم> إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ قرآن> رسم> لم يقل: بما رأيت. دل على أن الله تعالى يريه ويعلمه رسم> بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ قرآن> رسم> ؛ أي بما علمك وألهمك رسم> وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا قرآن> رسم> أي: لا تخاصم عنهم. فالحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من أمور دينهم وأمور دنياهم، حكمه من الله تعالى. فتح الله عليه وألهمه وعلمه؛ فكان بذلك معلما مما علمه الله رسم> بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ قرآن> رسم> .
والآية التي بعدها من سورة النحل رسم> وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ قرآن> رسم> لا شك أن هذا أيضا تكليف له رسم> لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ قرآن> رسم> فالله تعالى أمره ولا بد أنه امتثل، ولا بد أنه عمل بهذه الآية؛ بين للناس ما أنزله الله تعالى من الآيات، وما أمره به من الأحكام.
وقد يقال: إنه أضاف إليها بيانا من قبله؛ ولكنه مما فهمه من القرآن، قال تعالى: رسم> وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قرآن> رسم> رسم> لِتُبَيِّنَ لَهُمُ قرآن> رسم> دليل على أن الله كلفه بأن يبين لهم، رسم> الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ قرآن> رسم> يعني كل ما يختلفون فيه، ولهذا قال لهم: رسم> فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ قرآن> رسم> فكانوا إذا اختلفوا في شيء ترافعوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحكم بينهم، وبين لهم الصواب الذي اختلفوا فيه.
ووصف الله تعالى الكتاب بقوله: رسم> وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ قرآن> رسم> ؛ أي أنه متصف بهذه الصفات، ولكن لا يكون هدى ورحمة إلا للمؤمنين. ثم استدل أيضا ببعض ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: رسم> ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه متن_ح> رسم> يعني السنة، أي أن الله تعالى علمه القرآن وعلمه السنة التي هي مثل القرآن من الأحكام.
ففي حديث صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: رسم> لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله ما وجدنا فيه أحللناه وما وجدنا فيه حرمناه، ألا وإن ما حرمه رسول الله كما حرمه الله متن_ح> رسم> أو كما قال.
وقع هذا في كثير وأشهرهم الخوارج فإنهم اعتمدوا القرآن، وتركوا السنة ولم يأخذوا منها شيئا؛ حتى الأحاديث المتواترة لم يقبلوا منها شيئا، مثل أحاديث الشفاعة ونحوها، وكانوا يستدلون بالآيات القرآنية، أخذوها على ظاهرها؛ حتى استباحوا قتل بعض الصحابة كقتل عثمان اسم> وأخذوا ظاهر قوله تعالى: رسم> إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا قرآن> رسم> فقالوا: إن هذا قد سعى في الأرض فسادا، أولئك الذين خرجوا على عثمان اسم> رضي الله عنه.
فالحاصل أن الواجب على المسلم أن يأخذ الأحاديث الثابتة الصحيحة، وأن يتقبلها ويعمل بها ولا يرد منها شيئا، ويعتقد أنها من الله تعالى.
مسألة>