لا بأس أن يكتب المسلم اسمه في طرة المصحف (جانبه) مخافة اشتباه مصحفه بغيره، فقد لا يناسبه إلا مصحفه المخصص له، ولا بأس أن يكتب بعض الفوائد على الهوامش كتفسير كلمة أو سبب نزول أو ما أشبه ذلك. تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم. إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف
شرح مقدمة التفسير لابن تيمية
87283 مشاهدة
الخلاف بين السلف في التفسير

فصل: والخلاف بين السلف في التفسير قليل . وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير. وغالب ما يصح عنهم من خلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد .
وذلك صنفان: أحدهما: أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى، بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة. كما قيل في اسم السيف الصارم، والمهند. وذلك مثل أسماء الله الحسنى، وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم وأسماء القرآن.
فإن أسماء الله كلها تدل على مسمى واحد. فليس دعاؤه باسم من أسمائه الحسنى مضادا لدعائه باسم آخر، بل الأمر كما قال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى .
وكل اسم من أسمائه يدل على الذات المسماة، وعلى الصفة التي تضمنها الاسم. كالعليم يدل على الذات، والعلم . والقدير يدل على الذات، والقدرة . والرحيم تدل على الذات، والرحمة. ومن أنكر دلالة أسمائه على صفاته ممن يدعي الظاهر فقوله من جنس قول غلاة الباطنية القرامطة الذين يقولون: لا يقال هو حي، ولا ليس بحي بل ينفون عنه النقيضين.
فإن أولئك القرامطة الباطنية لا ينكرون اسما هو علم محض كالمضمرات. وإنما ينكرون ما في أسمائه الحسنى من صفات الإثبات. ومن وافقهم على مقصودهم كان مع دعواه الغلو في الظاهر موافقا لغلاة الباطنية في ذلك. وليس هذا موضع بسط ذلك، وإنما المقصود أن كل اسم من أسمائه يدل على ذاته وعلى ما في الاسم من صفاته. ويدل أيضا على الصفة التي في الاسم الآخر بطريق اللزوم.
وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم مثل محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب وكذلك أسماء القرآن مثل القرآن، والفرقان، والهدى، والشفاء، والبيان، والكتاب. وأمثال ذلك. فإذا كان مقصود السائل تعيين المسمى عبرنا عنه بأي اسم كان إذا عرف مسمى هذا الاسم. وقد يكون الاسم علما وقد يكون صفة. كمن يسأل عن قوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ما ذكره؟ فيقال له: هو القرآن مثلا، أو ما أنزله من الكتب. فإن الذكر مصدر والمصدر تارة يضاف إلى الفاعل وتارة إلى المفعول. فإذا قيل: ذكر الله بالمعنى الثاني كان ما يذكر به، مثل قول العبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.
وإذا قيل بالمعنى الأول كان ما يذكره هو وكلامه. وهذا هو المراد في قوله: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ؛ لأنه قال قبل ذلك: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى وهداه هو ما أنزله من الذكر. وقال بعد ذلك: قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا والمقصود أن يعرف أن الذكر هو كلامه المنزل، أو هو ذكر العبد له.
فسواء قيل: ذِكْرِي كتابي، أو كلامي أو هداي أو نحو ذلك فإن المسمى واحد.
وإن كان مقصود السائل معرفة ما في الاسم من الصفة المختصة به فلا بد من قدر زائد على تعيين المسمى. مثل أن يسأل عن القدوس، السلام، المؤمن وقد علم أنه الله. لكن ما معنى كونه قدوسا، سلاما، مؤمنا، ونحو ذلك؟ إذا عرف هذا فالسلف كثيرا ما يعبرون عن المسمى بعبارة تدل على عينه، وإن كان فيها من الصفة ما ليس في الاسم الآخر، كمن يقول: أحمد والحاشر والماحي والعاقب والقدوس: هو الغفور الرحيم، أي إن المسمى واحد لا إن هذه الصفة هي هذه. ومعلوم أن هذا ليس اختلاف تضاد كما يظنه بعض الناس. مثال ذلك تفسيرهم لـ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ فقال بعضهم: هو القرآن؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث علي الذي رواه الترمذي ورواه أبو نعيم من طرق متعددة هو: حبل الله المتين، والذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم .
وقال بعضهم: هو الإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث النواس بن سمعان الذي رواه الترمذي وغيره: ضرب الله مثلا صراطا مستقيما وعلى جنبتي الصراط سوران. وفي السورين أبواب مفتحة وعلى الأبواب ستور مرخاة. وداع يدعو من فوق الصراط. وداع يدعو على رأس الصراط. قال: فالصراط المستقيم هو الإسلام، والسوران حدود الله، والأبواب المفتحة محارم الله، والداعي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مؤمن .
فهذان القولان متفقان؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن. ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر. كما أن لفظ الصراط يشعر بوصف ثالث. وكذلك قول من قال: هو السنة والجماعة، وقول من قال: هو طريق العبودية، وقول من قال: هو طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك. فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها.


ابتدأ في هذا الفصل يذكر ما حدث من السلف من الاختلاف في التفسير، وأنه ليس تفسيرا متضادا. يقول: الخلاف بين السلف في التفسير قليل . والمراد بالسلف الصحابة والتابعون، وتابعو التابعين، أو أهل القرون الثلاثة المفضلة. هؤلاء يطلق عليهم السلف . والقرن الرابع وما بعده إذا كانوا صالحين يسمون الخلَف، وإذا كانوا مخالفين يسمون الخلْف فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ .
فيقول: إن الخلاف بين السلف رحمهم الله قليل في التفسير . وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير. يعني وقع خلاف في الأحكام فتجدون بين الحنفية والمالكية خلافا في الأحكام، وكذلك بين المالكية، والشافعية مع أن الشافعي رحمه الله تلميذ مالك روى عنه موطأه. ومع ذلك خالفه. خالفه في أشياء كثيرة. واختلف الأئمة الأربعة حتى في مسألة واحدة.