مجموعة محاضرات ودروس عن الحج
كيفية التعرف على الله تعالى
فإذا قيل لك: بِأَيِّ شَيْءٍ عرفتَ ربك؟ نقول: بآياته وبمخلوقاته. تَعَرَّفَ إلى عباده بالآيات وبالمخلوقات التي نصبها كالدلالات، فَمِنَ الناس مَنْ رزقه الله تعالى عقلا؛ فتفكر في هذه الآيات فعرف أنها مخلوقة لخالق الأرض والسماوات، وعرف أنها مربوبة، وأن الذي خلقها هو الذي خلق كل شيء، وأنه الرب العظيم المالك لكل شيء، نصب هذه الآيات والدلالات لِتَدُلَّ العباد على أنه ربهم ومالكهم وخالقهم، والْمُدَبِّرُ لهم.
لما تكلم ابن كثير اسم> رحمه الله على الآيات التي في أول سورة البقرة: رسم> الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ قرآن> رسم> قال: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة، وأورد أدلة تدل على عظمة الخالق، وأنه نصب الآيات في كل شيء، فاستدل بقول ابن المعتز اسم>
فوا عجبـا كـيف يُعْصَـى الإلـه | أَمْ كـيف يجـحـده الجــاحـدُ |
وفـى كــل شَـيْءٍ لــه آيـةٌ | تَــدُلُّ عــلى أَنَّــهُ واحــدُ |
ولِلَّــهِ فـي كـُــلِّ تحريكــةٍ | وتسـكينــةٍ أبــدًا شـاهــدُ |
البعوضة: الناموسة هذه التي تَرِنُّ، والتي قد جعلها الله تعالى عقوبة لبعض الخلق. ذُكِرَ أن النُّمْرُود اسم> لما عتا وتَمَرَّدَ دخلت في خياشيمه ناموسة، وعجزوا عن إخراجها وعجزوا عن تخليصه منها، ولم تَزَلْ تأكل منه إلى مدة طويلة زيادةً في عذابه. إذا تَفَكَّرْنَا في هذه الناموسة؛ وجدنا أن لها قوائم، ولا بد أن تلك القوائم فيها لَحْمٌ، وأن فيها عصبا، وأن فيها عظاما، وأن فيها مُخًّا.
وكذلك أيضا لا بد أن لها أعين؛ أن لها عينين تبصر بهما، بل يكون بَصَرُهَا ونظرها أَحَدَّ من نظر الإنسان، والدليل أنها تبصر الأماكن الرقيقة في جلد الإنسان، فتقع عليه. في جلد الإنسان منافذ، وهي التي يخرج منها الْعَرَقُ، وتُسَمَّى الْمَسَام، تبصرها، نحن لا نبصرها، ولكن تبصرها لأنها رقيقة فتقع عليها، وإذا وقعت عليها أعطاها الله تعالى هذا المنقار الذي هو مثل خرطوم الفيل -أكبر المخلوقات التي نشاهدها هذا الفيل الذي خرطومه نحو متر ونصف، أو قريب منه- خرطومها مثل خرطوم الفيل تغرزه في هذا المكان الرقيق الذي بَصَّرَها الله به، وجعل بصرها فيه.
وإذا غرزته امتصت الدم الذي في ذلك المكان، إلى أن تمتلئ من هذا الدم. فالذي خلقها جعلها مثلا: رسم> إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا قرآن> رسم> فلو تفكر الإنسان في هذه البعوضة لَعَرَفَ قُدْرَةَ مَنْ خلقها، وأوجدها؛ ولهذا يقول بعضهم في ابتهاله:
يـا من يرى مد البعوض جناحـه | فـي ظلمة الليـل البهيـم الأليـل |
ويـرى مناط عروقها في نحرهـا | والْمُخَّ فـي تلك العظـام النُّحَّــلِ |
امْنُـنْ عَلَـيَّ بتوبـة تمحـو بها | مـا قد مضى لي في الزمان الْأَوَّلِ |
وفـي كــل شـيء لـه آيـةٌ | تَــدُلُّ علــى أَنَّــهُ واحِــدُ |
إذا نظرنا مثلا في هذه الأرض التي نحن نتقلب عليها؛ وجدنا فيها آيات؛ ولذلك قال تعالى: رسم> وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ قرآن> رسم> .
تكلم العلماء على هذه الآيات، منهم ابن الْقَيِّمِ اسم> رحمه الله في كتابه الذي سَمَّاه التبيان في أقسام القرآن فتكلم على هذه الآية: رسم> وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ قرآن> رسم> وبَيَّنَ أن فيها عِبَرًا، وأن فيها آيات بينات، وتكلم على قوله: رسم> وَفِي أَنْفُسِكُمْ قرآن> رسم> .
يعني أقرب شيء إلى الإنسان نفسه، لو تفكر في خلق نفسه؛ لَعَظُمَ قَدْرُ ربه في قلبه، وعرف أن الذي خلقه وأعطاه هذه المخلوقات، وجعل كل عضو له وظيفة، كل عضو وكل حاسَّةٍ من الإنسان، وكل عظم له وظيفته، ليس شيء منه خُلِقَ عَبَثًا، بل كل عضو له فائدته حتى مثلا أظافِرُهُ في يديه. الأظافر هذه لها فائدة، حتى أصابعه وأنامله جعلها الله تعالى تنقبض وتنبسط، أعطاه هاتين اليدين ليعمل بهما. لا شك أن هذا من أكبر النِّعَمِ، وأَنَّهُ من أَدَلِّ الدلالات على أن الذي خلقنا ما خلقنا عَبَثًا.
ثم مَيَّزَنَا بما مَيَّزَنَا به، فمن ذلك أنه سخر لنا هذه المخلوقات، من جُمْلَتِهَا الحيوانات التي سخرها، قال الله تعالى: رسم> وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ قرآن> رسم> .
أخبر بأنه سَخَّرَ هذه البهائم، هي مخلوقة من مخلوقات الله، أعطاها الله تعالى قوائم، وأعطاها سمعا، وأعطاها بصرا، وأعطاها أيضا ما تتقوت به، ويَسَّرَ لها القوت الذي تقتات به، وألهمها ما يكون غذاء وما يكون ليس بغذاءٍ، فهي تعرف ما ينفعها وما يضرها من الأغذية؛ فلا تَأْكُلُ الشيء الذي يضرها، بل تعرف النبات الذي ينفعها، والذي هو غذاء لها، ومع ذلك هي مِنْ خَلْقِ الله.
ومِنْ فَضْلِ الله على الإنسان ومن تفضيله أن سخرها له، وأن أباح له أن يذبحها، أن أباح له ذبحها مع أن الذبح فيه إيلام لها،؛ إيلام يعني إزالة هذه الحياة منها، وإخراج أرواحها من أجسادها؛ وذلك لفضل الإنسان، ولشرفه أباحها له، فقال: رسم> فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا قرآن> رسم> ؛يعني سقطت: رسم> فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ قرآن> رسم> .
فهذا من شرف الإنسان، أنه سَخَّرَ له كل شيء، وأنه رَبَّاهُ بنعمه، ربانا بنعمه، وأنه تعرف إلى عباده بهذه المخلوقات؛ إذا نظرت في هذه المخلوقات التي أمامك ترى عجبا من العجب، فترى مثلا هذه الشمس التي سخرها الله تعالى، وهذا القمر، قال الله تعالى: رسم> وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ قرآن> رسم> أي: يسيران دائما.
رسم> وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي قرآن> رسم> الشمس والقمر كل منهما يجري لأجل مسمى، وكذلك أيضا جعل هذا الليل وهذا النهار، جعلهما آية من آيات الله، قال تعالى: رسم> وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ قرآن> رسم> الآيات هي العلامات التي نَصَبَهَا لعباده حتى يعرفوا ربهم، ويعرفوا عظمته؛ يعني أن هذه من الآيات التي يُسْتَدَلُّ بها على قُدْرَةِ مَنْ خلقها، وعلى قدرة من أنشأها.
ولذلك دائما يذكر هذه الآيات حتى يُسْتَدَلَّ بها على قدرة الخالق تعالى، قال الله تعالى: رسم> وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ قرآن> رسم> رسم> وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا قرآن> رسم> رسم> وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ قرآن> رسم> رسم> وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ قرآن> رسم> رسم> وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قرآن> رسم> رسم> وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ قرآن> رسم> يختم كل آية بقوله: رسم> إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ قرآن> رسم> رسم> إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ قرآن> رسم> .
رسم> إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ قرآن> رسم> رسم> إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ قرآن> رسم> فهذه آيات الله التي تعرف بها إلى عباده، حتى يتفكروا، حتى يتعقلوا، وحتى يعرفوا أنهم ما خُلِقُوا عبثا، ولا تركوا هملا، وأن الذي خلقهم قد كَلَّفَهُمْ، وأمرهم ونهاهم، وفرض عليهم فرائض، وأنه سبحانه وتعالى يثيبهم على أعمالهم الصالحة في دنياهم وفي أخراهم، وأنه قادر على أن يعاقبهم إذا خرجوا عن طواعيته، إذا خرجوا عن الاستقامة؛ يعاقبهم في دنياهم وفي أخراهم.
مسألة>