قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم.    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه. الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه
مجموعة محاضرات ودروس عن الحج
108003 مشاهدة
الحج شرف المكان والزمان

اشكروا الله تعالى على أن وفقكم وسددكم وأوصلكم إلى هذه البقاع الطاهرة الطيبة، وإذا كان كذلك فإن من شكر الله -عز وجل- على هذه النعمة الحرص على أدائها كما فرضها الله، الحرص على أداء هذه العبادة كما أمر الله بها، وكما بينها نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
فأولا: أنها تقع في أشهر شريفة في زمن شريف، هذه الأيام التي نحن فيها هي الأيام المعلومات التي أمر الله تعالى بذكره فيها، في قوله تعالى: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فهذه الأيام أيام شريفة لها فضلها ولها ميزتها ولها مكانتها؛ فالعبادة فيها يضاعَف أجرها أضعافا كثيرة لشرفها، كذلك أيضا شرف المكان فإن مكة هي أم القرى كما أخبر الله في قوله تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا فأم القرى هي هذه البلدة التي ذكرها الله تعالى في قول إبراهيم عليه السلام: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ يعني: هذا البلد.
وقد أقسم الله به، قال الله تعالى: لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ والقسم به دليل على فضله، ودليل على شرفه، ما يقسم الله إلا بكل ما فيه شرف.
كذلك أيضا أخبر بأنه آمن فقال تعالى: وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ .
أي هذه البلاد التي هي آمنة، وقال تعالى: أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ أي: أنه آمن، يأمن من دخل فيه، لا يتعرض له أحد، يلقى الرجل فيه قاتل أبيه فلا يتعرض له وذلك لمعرفتهم مكانة هذه البلدة وأهميتها وعظم مكانتها، أنها بلدة عظيمة، وأن الله تعالى حرمها.
ورد أيضا في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض- ولم يحرمها الناس- إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله تعالى، لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا يختلى خلاها، ولا تلتقط ساقطتها. لا يحل لمسلم أن يسفك بها دما، ولا أن يعضد بها شجرة، هذا هو دليل على مكانة هذه البلدة، ولما كان كذلك كانت العبادة فيها أشرف من غيرها، جميع البلد مقدسة من قداستها أن الله تعالى منع أن يدخلها أهل الشرك، فقال تعالى: إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا هكذا أخبر أن هذا البلد مقدس وله مكانته؛ فلا تمكنوا المشركين أن يدخلوه، ثم أخبر بأنه فرض الحج على المستطيع في قوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا .
مجمل شروط وجوب الحج
اشترط العلماء لوجوب الحج أربعة شروط أو خمسة:
الشرط الأول: الإسلام، وقالوا: لا يصح الحج من الكافر وذلك لأن أعمال الكافر مردودة ولو عمل أي: عمل.
الشرط الثاني: العقل، فلا يجب على المجنون فاقد العقل.
الشرط الثالث: البلوغ، فلا يجب على الصغير وإن كان يصح منه ولكن لا يجزئه عن حجة الإسلام.
والشرط الرابع: الحرية، فلا يجب على الرقيق المملوك؛ لأنه مشغول بخدمة سيده.
والشرط الخامس: الاستطاعة، القدرة عليه، وقد ورد في الحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سُئل ما السبيل في قوله تعالى: مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا ؟ فقال: الزاد والراحلة. قال العلماء: من مَلَك زادا وراحلة صالحين لمثله بعد قضاء حوائجه الأصلية وبعد قضاء حوائج أهله وجب عليه، وذكروا على القول الصحيح أن الحج يجب على الفور ولا يجوز تأخيره مع القدرة؛ ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: بادروا بالحج- يعني الفريضة- فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له. أي: إذا تمكن أحدكم فليبادر، يبادر إلى الحج -يعني أداء الفريضة- قبل أن يعرض له عارض، وقبل أن يمنعه مانع؛ فيكون بذلك مفرطا حيث إنه تمكن ومع ذلك فرط فيكون بذلك ملوما ومفرطا.
يسر الله تعالى ما كان صعبا وما كان يذكره الآباء والأجداد يسر ذلك فقد سُهِّلت الطرق، عُبدت السبل بعد أن كانت صعبة، كان الأولون يمشون من نجد نحو شهر على الرواحل يمشون كل يوم اثنتي عشرة ساعة ولا يؤويهم إلا الليل، وربما يمشي بعضهم في الليل فيبقون شهرين؛ شهرا في الذهاب وشهرا في الرجوع، وكذلك أيضا حتى بعد ما وجدت السيارات كانت الطرق صعبة؛ فكانوا يمكثون بينهم وبين نجد ثلاثة أيام أو أربعة أيام؛ وذلك لصعوبة الطرق وعدم سفلتتها؛ فكانوا في ذلك يلاقون مشقة، ومع ذلك فإنهم يصبرون على ذلك، ويدفعون ما يقدرون عليه من الأموال في سبيل وصولهم إلى هذه الأماكن، وهذه البقع المقدسة، لا شك أن هذا هو الأصل.
أما الآن فقد سهلت- والحمد لله- الطرق، ليس لأحد عذر أن يترك الحج وهو قادر عليه سيما حج الفريضة، وإذا كان قد حج -والحمد لله- مرارا فكذلك أيضا لا يحرم نفسه الأجر الذي رتب على هذه الأعمال وهي مناسك الحج؛ بل يتطوع بما يشاء، يتطوع ويتردد إليه إن تيسر له كل عام أو كل عامين أو كل خمسة أعوام أو كل ستة متى تيسر له فلا يحرم نفسه؛ ليحصل على هذا الأجر، وليشاهد مع المشاهدين، ويقف مع الواقفين، ويحصل أن الله تعالى يباهي به ويباهي بمن معه الملائكة؛ فإن الله يباهي بالحجاج يوم عرفة ملائكته ويقول: انظروا إلى عبادي أتوني شعثا غبرا ضاحين من كل فج عميق يرجون رحمتي ويخشون عذابي أشهدكم أني قد غفرت لهم، ووهبت مسيئهم لمحسنهم، انصرفوا مغفورا لكم. أجر كبير وفضل عظيم أنهم ينصرفون وقد غُفرت لهم سيئاتهم.