الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) الاعمى إذا أراد الصلاة فعليه أن يتحرى القبلة باللمس للحيطان إذا كان صاحب البيت، وإلا فعليه أن يسأل من حضر عنده، فإن لم يكن عنده من يسأله تحرى وصلى بالاجتهاد الغالب على ظنه، ولا إعادة عليه، كالبصير إذا اجتهد في السفر ثم تبين له خطأ اجتهاده فلا إعادة عليه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". فلو خانك إنسان فلا تجازه بالخيانة، بل اصفح وتجاوز عنه حتى يثيبك الله بالحسنى ويعفو عنك، ويعاقبه على خيانته إذا كان قد تعمدها، ولربما ندم إذا رآك تعامله بهذه المعاملة وهو قد خان! فيندم ويتخلق بأخلاقك؛ فيكون عملك هذا دعوة وسببا للتخلق بهذا الخلق العظيم.    جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر.
مجموعة محاضرات ودروس عن الحج
121433 مشاهدة
كيفية التعرف على الله تعالى

فإذا قيل لك: بِأَيِّ شَيْءٍ عرفتَ ربك؟ نقول: بآياته وبمخلوقاته. تَعَرَّفَ إلى عباده بالآيات وبالمخلوقات التي نصبها كالدلالات، فَمِنَ الناس مَنْ رزقه الله تعالى عقلا؛ فتفكر في هذه الآيات فعرف أنها مخلوقة لخالق الأرض والسماوات، وعرف أنها مربوبة، وأن الذي خلقها هو الذي خلق كل شيء، وأنه الرب العظيم المالك لكل شيء، نصب هذه الآيات والدلالات لِتَدُلَّ العباد على أنه ربهم ومالكهم وخالقهم، والْمُدَبِّرُ لهم.
لما تكلم ابن كثير رحمه الله على الآيات التي في أول سورة البقرة: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ قال: الخالق لهذه الأشياء هو المستحق للعبادة، وأورد أدلة تدل على عظمة الخالق، وأنه نصب الآيات في كل شيء، فاستدل بقول ابن المعتز
فوا عجبـا كـيف يُعْصَـى الإلـه
أَمْ كـيف يجـحـده الجــاحـدُ
وفـى كــل شَـيْءٍ لــه آيـةٌ
تَــدُلُّ عــلى أَنَّــهُ واحــدُ
ولِلَّــهِ فـي كـُــلِّ تحريكــةٍ
وتسـكينــةٍ أبــدًا شـاهــدُ
حقًّا أن في كل حركة شاهدا على عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وأن في كل شيء آيةً تَدُلُّ على وحدانية الله عز وجل. لو تفكر الإنسان في أصغر المخلوقات التي جعلها الله تعالى مثلا في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا .
البعوضة: الناموسة هذه التي تَرِنُّ، والتي قد جعلها الله تعالى عقوبة لبعض الخلق. ذُكِرَ أن النُّمْرُود لما عتا وتَمَرَّدَ دخلت في خياشيمه ناموسة، وعجزوا عن إخراجها وعجزوا عن تخليصه منها، ولم تَزَلْ تأكل منه إلى مدة طويلة زيادةً في عذابه. إذا تَفَكَّرْنَا في هذه الناموسة؛ وجدنا أن لها قوائم، ولا بد أن تلك القوائم فيها لَحْمٌ، وأن فيها عصبا، وأن فيها عظاما، وأن فيها مُخًّا.
وكذلك أيضا لا بد أن لها أعين؛ أن لها عينين تبصر بهما، بل يكون بَصَرُهَا ونظرها أَحَدَّ من نظر الإنسان، والدليل أنها تبصر الأماكن الرقيقة في جلد الإنسان، فتقع عليه. في جلد الإنسان منافذ، وهي التي يخرج منها الْعَرَقُ، وتُسَمَّى الْمَسَام، تبصرها، نحن لا نبصرها، ولكن تبصرها لأنها رقيقة فتقع عليها، وإذا وقعت عليها أعطاها الله تعالى هذا المنقار الذي هو مثل خرطوم الفيل -أكبر المخلوقات التي نشاهدها هذا الفيل الذي خرطومه نحو متر ونصف، أو قريب منه- خرطومها مثل خرطوم الفيل تغرزه في هذا المكان الرقيق الذي بَصَّرَها الله به، وجعل بصرها فيه.
وإذا غرزته امتصت الدم الذي في ذلك المكان، إلى أن تمتلئ من هذا الدم. فالذي خلقها جعلها مثلا: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فلو تفكر الإنسان في هذه البعوضة لَعَرَفَ قُدْرَةَ مَنْ خلقها، وأوجدها؛ ولهذا يقول بعضهم في ابتهاله:
يـا من يرى مد البعوض جناحـه
فـي ظلمة الليـل البهيـم الأليـل
ويـرى مناط عروقها في نحرهـا
والْمُخَّ فـي تلك العظـام النُّحَّــلِ
امْنُـنْ عَلَـيَّ بتوبـة تمحـو بها
مـا قد مضى لي في الزمان الْأَوَّلِ
نعم. صحيح أنها من أصغر المخلوقات. فلذلك:
وفـي كــل شـيء لـه آيـةٌ
تَــدُلُّ علــى أَنَّــهُ واحِــدُ
فضلا عن المخلوقات الكبرى؛ المخلوقات العظيمة، التي إذا شاهدها وتأمل فيها؛ عرف عظمة من أوجدها.
إذا نظرنا مثلا في هذه الأرض التي نحن نتقلب عليها؛ وجدنا فيها آيات؛ ولذلك قال تعالى: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ .
تكلم العلماء على هذه الآيات، منهم ابن الْقَيِّمِ رحمه الله في كتابه الذي سَمَّاه التبيان في أقسام القرآن فتكلم على هذه الآية: وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ وبَيَّنَ أن فيها عِبَرًا، وأن فيها آيات بينات، وتكلم على قوله: وَفِي أَنْفُسِكُمْ .
يعني أقرب شيء إلى الإنسان نفسه، لو تفكر في خلق نفسه؛ لَعَظُمَ قَدْرُ ربه في قلبه، وعرف أن الذي خلقه وأعطاه هذه المخلوقات، وجعل كل عضو له وظيفة، كل عضو وكل حاسَّةٍ من الإنسان، وكل عظم له وظيفته، ليس شيء منه خُلِقَ عَبَثًا، بل كل عضو له فائدته حتى مثلا أظافِرُهُ في يديه. الأظافر هذه لها فائدة، حتى أصابعه وأنامله جعلها الله تعالى تنقبض وتنبسط، أعطاه هاتين اليدين ليعمل بهما. لا شك أن هذا من أكبر النِّعَمِ، وأَنَّهُ من أَدَلِّ الدلالات على أن الذي خلقنا ما خلقنا عَبَثًا.
ثم مَيَّزَنَا بما مَيَّزَنَا به، فمن ذلك أنه سخر لنا هذه المخلوقات، من جُمْلَتِهَا الحيوانات التي سخرها، قال الله تعالى: وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ .
أخبر بأنه سَخَّرَ هذه البهائم، هي مخلوقة من مخلوقات الله، أعطاها الله تعالى قوائم، وأعطاها سمعا، وأعطاها بصرا، وأعطاها أيضا ما تتقوت به، ويَسَّرَ لها القوت الذي تقتات به، وألهمها ما يكون غذاء وما يكون ليس بغذاءٍ، فهي تعرف ما ينفعها وما يضرها من الأغذية؛ فلا تَأْكُلُ الشيء الذي يضرها، بل تعرف النبات الذي ينفعها، والذي هو غذاء لها، ومع ذلك هي مِنْ خَلْقِ الله.
ومِنْ فَضْلِ الله على الإنسان ومن تفضيله أن سخرها له، وأن أباح له أن يذبحها، أن أباح له ذبحها مع أن الذبح فيه إيلام لها،؛ إيلام يعني إزالة هذه الحياة منها، وإخراج أرواحها من أجسادها؛ وذلك لفضل الإنسان، ولشرفه أباحها له، فقال: فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا ؛يعني سقطت: فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ .
فهذا من شرف الإنسان، أنه سَخَّرَ له كل شيء، وأنه رَبَّاهُ بنعمه، ربانا بنعمه، وأنه تعرف إلى عباده بهذه المخلوقات؛ إذا نظرت في هذه المخلوقات التي أمامك ترى عجبا من العجب، فترى مثلا هذه الشمس التي سخرها الله تعالى، وهذا القمر، قال الله تعالى: وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ أي: يسيران دائما.
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي الشمس والقمر كل منهما يجري لأجل مسمى، وكذلك أيضا جعل هذا الليل وهذا النهار، جعلهما آية من آيات الله، قال تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ الآيات هي العلامات التي نَصَبَهَا لعباده حتى يعرفوا ربهم، ويعرفوا عظمته؛ يعني أن هذه من الآيات التي يُسْتَدَلُّ بها على قُدْرَةِ مَنْ خلقها، وعلى قدرة من أنشأها.
ولذلك دائما يذكر هذه الآيات حتى يُسْتَدَلَّ بها على قدرة الخالق تعالى، قال الله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ يختم كل آية بقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ .

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فهذه آيات الله التي تعرف بها إلى عباده، حتى يتفكروا، حتى يتعقلوا، وحتى يعرفوا أنهم ما خُلِقُوا عبثا، ولا تركوا هملا، وأن الذي خلقهم قد كَلَّفَهُمْ، وأمرهم ونهاهم، وفرض عليهم فرائض، وأنه سبحانه وتعالى يثيبهم على أعمالهم الصالحة في دنياهم وفي أخراهم، وأنه قادر على أن يعاقبهم إذا خرجوا عن طواعيته، إذا خرجوا عن الاستقامة؛ يعاقبهم في دنياهم وفي أخراهم.