جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر.    عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة) إذا عرف الصغير ربه، وعظم قدر ربه في قلبه، نشأ على طاعة الله تعالى، ونشأ على محبته، وأحب عبادة الله وعظمها في صغره، وسهلت عليه وداوم عليها في كبره، وكره المعصية ونفر منها، وكره كل ما نهى الله تعالى عنه؛ حيث أن آباءه يعلمونه الخير ويؤدبونه عليه إن المسلم الملتزم بدين الله ، والذي سار على صراط الله المستقيم ، سيجد دعاة الضلال والانحراف؛ وهم واقفون على جانبي الطريق، فإن أنصت لهم والتفت إليهم عاقوه عن السير، وفاته شيء كثير من الأعمال الصالحة. أما إذا لم يلتفت إليهم؛ بل وجه وجهته إلى الله فهنيئا له الوصول إلى صراط ربه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف يجوز أن يعلم القبر بعلامات يعرف بها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم لما دفن عثمان بن مظعون جعل عند قبره حجرا وقال: "أعرف به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي". فيجوز أن يجعل علامة كحجر أو لبنة أو خشبة أو حديدة أو نحو ذلك، ليميز بها القبر عن غيره حتى يزوره ويعرفه.أما أن يكتب عليه فلا يجوز؛ لأنه قد نهي أن يكتب على القبور حتى ولو اسمه، وكذلك نهي أن يرفع رفعا زائدا عن غيره.
شرح لمعة الاعتقاد
186440 مشاهدة
قول الإمام أحمد في أحاديث الصفات

نقل بعد ذلك كلاما عن الإمام أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل -رضي الله عنه- وهو إمام أهل السنة لما سئل عن قول النبي -صلى الله عليه وسلم- إن الله ينزل إلى سماء الدنيا و أن الله يرى يوم القيامة كان من معتقده إثبات النزول، وأن الله تعالى ينزل كما يشاء بلا كيف، ولا نقول كيفية نزوله كنزولنا بل ينزل كما يشاء كما ثبتت الأدلة بذلك عن جماعة من الصحابة، وكذلك أيضا أنه يرى في الآخرة أن الله تعالى يتجلى لعباده في الجنة ويرونه كما يرون الشمس وكما يرون القمر ليلة البدر والأحاديث التي في الصفات، في مثل هذا يقول الإمام أحمد -رحمه الله- نؤمن بها ونصدق بها، ومعنى ذلك: أنا نعتقد ثبوتها لأنها مروية بالأسانيد الصحيحة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- فنعتقد صحتها وثبوتها ونصدق بما دلت عليه، نصدق أنها دالة على صفات حقيقية، على أن النزول حقيقي كما يشاء الله تعالى وليس كنزول المخلوقين من مكان عال إلى مكان أسفل منه، ونصدق برؤية الله تعالى بأنه يتجلى لعباده وأنهم يرونه عيانا بأبصارهم.
وكذلك بقية الأحاديث نؤمن بها ولا نكيفها. من قوله: لا كيف ولا معنى -أي- لا نقول كيف هي لا نسأل عن كيفيتها فإن الكيف مجهول ولا نقول: إنها تدل على ما يدل عليه النفع في صفات المخلوقين لا نشبهها بصفات المخلوقين؛ بل نقول إنها صفة أثبتها الله تعالى لنفسه فنحن نثبتها له ونكل كيفيتها إلى الله تعالى؛ لكن نعرف أن لها معنى فنعرف أن سمع الله يدل على أنه يسمع الأصوات، ونعلم أن رؤيته تدل على أنه يرى الأشياء -الأشخاص- ويرى المرئيات، ونعلم أنه يثيب -يثيب عباده- وأنه يحب من اتقاه وأطاعه، وأنه كما يشاء يرضى عن عباده المؤمنين ويغضب على الكافرين، وأن من آثار رضاه أنه يثيب هؤلاء ومن آثار غضبه أنه يعاقب من غضب عليهم وما أشبه ذلك، فهذا ما عليه سلف الأمة كلهم والأئمة المقتدى بهم، وأما من خالفهم من غيرهم فلا يقتدى بما يقولونه، فأهل التحقيق من السلف ومن الخلف وكبار العلماء على هذا على أن الله سبحانه وصف نفسه بصفات، وأن تلك الصفات حقيقية، وأن الله تعالى أثبتها لنفسه كما أثبتها له نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
ولا نرد شيئا منها: لا نرد شيئا من الآيات ولا من الأحاديث بل نقبلها ونسلم بمدلولها ونشهد بأنها دالة على حق، ونعلم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يأتي إلا بحق وبصدق، ونعلم أيضا أن الله تعالى لا يثبت لنفسه إلا الشيء الصحيح الذي لا مرية فيه ولا ريب فيه. فإذن يلزمنا تقبل كل ما جاءت به الأحاديث وكل ما ثبتت به السنة عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن من ترك شيئا منها فقد رد على الرسول -صلى الله عليه وسلم- ورد على الرب سبحانه وتعالى؛ وذلك ينافي تقبله للرسالة، الذين يأخذون بعض الأحاديث ويردون بعضها يصدق عليهم أنهم يقولون نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وهذا من الضلال، كيف يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض؟ يؤمنون بما تدركه عقولهم ويكفرون بغير ذلك بما لا تصل إليه أفهامهم في زعمهم، فيكونون قد ردوا على النبي -صلى الله عليه وسلم- ردوا عليه بعض شريعته وبعض سنته.
فنحن نقبل كل ما جاء به ونقول إنه حق، جاءنا بالقرآن فهو حق، وجاءنا بالسنة فهو حق، نقبلها فيما يتعلق بالعقائد، ونقبلها فيما يتعلق بالأحكام، ولا نقول إنها مقبوله في الأحكام مردودة في العقائد كما يقوله هؤلاء المعتزلة والأشعرية ومن أشبههم، لا نصف الله تعالى بصفات من قبل أنفسنا؛ بل إنما نصفه بما وصف به نفسه وبما أثبته له، ولا نحد صفاته -يعني- كما يحدها المشبهة، هذا معنى قوله: بلا حد ولا غاية الحد: هو التعريف الذي يحدد الصفة. نقول: إن السمع: هو التمييز بين الأصوات أو معرفة ما يدل عليه الصوت. وأما تحديد صفة السمع لله تعالى بأنه يسمع بجارحة أو يسمع بكذا وكذا أو يدخل السمع في الأذن أو ما أشبه ذلك دخول الكلام فإننا لا نتدخل في ذلك، فإن هذا من التدخل في علم الغيب، ولا نقول غاية الأمر يصل إلى كذا وكذا، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ لا يماثله شيء من المخلوقات، وهو السميع الذي يسمع كل شيء كما يشاء، والبصير الذي يبصر كما يشاء.
ونقول كما قال: يعني: كما قاله الله تعالى في حق نفسه، ونصفه بما وصف به نفسه وبما وصفه به نبيه -صلى الله عليه وسلم- من الصفات التي ثبتت، لا نتعدى ذلك، ولا نثبت شيئا من الصفات بأنفسنا، نقول: لا يبلغه وصف الواصفين -يعني- لو وصفه أحد من قبل نفسه فإنه لا يقدر على أن يعطيه الصفات التي يستحقها؛ إنما صفاته متلقاة عن كلامه وكلام نبيه -صلى الله عليه وسلم-.

نؤمن بالقرآن كله مجمله ومتشابهه محكمه ومتشابهه، نؤمن بالقرآن كله، الله تعالى ذكر أن في القرآن آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فنؤمن بالمحكم وبالمتشابه، ونقول في المحكم نعمل به ونعرف ما يدل عليه، وفي المتشابه نعرف ألفاظه ونعرف معانيه من حيث الإجمال، وأما تكييفه فإنه محجوب عنا.
ولا نزيل عن الله تعالى صفة من صفاته لشناعة شنعت: أهل الزيغ يشنعون -يعني- يعيبون على أهل الإثبات، فيقولون: إنكم قد شبهتم، وإنكم مشبهة، فنقول: لا نلتفت إلى تشنيعكم ولا يغرنا كلامكم.
ذكروا أن من جملة المعتزلة الزمخشري صاحب الكشاف لما كان يسمع أهل السنة يقولون: إن الله تعالى يرى بلا كيف، وأنه ينزل بلا كيف، ويجيء بلا كيف، وأنه يسمع بلا كيف، قال: إنكم مشبهة، وهجاهم بقوله في قصيدة له:
قـد شبهـوه بخلقـه فتخوفـوا
شنـع الـورى فتسـتروا بالبلكفـة
يريد بالبلكفة قولهم: بلا كيف. هذا من طعنه في معتقد ومذهب أهل السنة والجماعة -نعوذ بالله- قد رد عليه العلماء وبينوا أنك أنت الذي وقعت في التشبيه؛ لأن الذين عطلوا الله تعالى عن صفاته وقعوا في تشبيه أشد من التشبيه الذي هربوا منه، فإنهم -أولا- ارتسم في أذهانهم أن هذه الصفات وهذه الآيات والأحاديث تدل على التشبيه فلم يفهموا منها إلا ما يناسب المخلوق، فأصبحوا بذلك -بهذا الاعتقاد- مشبهة في ظنهم، ولما تسلطوا على هذه الصفات وعلى هذه الأدلة ونفوا دلالتها ونفوا اتصاف الله تعالى بها وقعوا في تشبيه أشد منه، وهو أنهم شبهوا الله تعالى بالجمادات؛ بل شبهه بعضهم بالمعدومات؛ بل شبهوه بالممتنعات والمستحيلات، فيعيبون أهل السنة بأنهم مشبهة وهم أولى بأن يكونوا مشبهة.
فلا نزيل عن الله تعالى صفة من صفاته لشناعة شنعت، ولا نتعدى القرآن والحديث أي نقتصر على دلالتهما، ولا نأتي بأشياء من قبل أنفسنا فلا نصف الله تعالى بصفات مبتدعة من قبل أنفسنا؛ بل نقول إن صفاته كلها متلقاة عن الوحيين عن الكتاب والسنة، والعقول ليس لها أن تتدخل في أسمائه وفي صفاته؛ وإنما يقتصر على ما جاء عنه في كتابه وعلى لسان نبيه -صلى الله عليه وسلم-.
ولا نعلم كنه ذلك، الكنه: هو حقيقة الشيء وماهيته وما هو عليه، لما أن بعضا من اليهود تجرءوا وقالوا للنبي -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا عن ربك أهو من لحم أو من عظم أو من ذهب أو من فضة؟ فعند ذلك أنزل الله تعالى سورة الإخلاص، أو قرأ عليهم سورة الإخلاص في قوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ فأخبر بأنه أحد، وبأنه صمد، ونفى عن نفسه هذه النقائص، فدل على أنه لا يجوز أن يتدخل أحد في تكييف كنه ذلك -كنه الله وصفات الله تعالى ولا كنه ذاته ولا كنه أفعاله-؛ بل كل ذلك يعتمد على تصديق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وعلى تصديق القرآن.
هذا مما دل عليه في هذه المقدمة، ونعد نمشي على هذا -إن شاء الله- في الأيام القادمة نعرف أن هذه العقيدة عليها شروح متأخرة فعليها شرح للشيخ محمد بن عثيمين وعليها شرح لنا أو شرحان، الشرح الأول اسمه: التعليقات، والشرح الثاني أوسع منه اسمه: الإرشاد في شرح لمعة الاعتقاد، وكلها مطبوعة، وشرحنا -هاهنا- يكون شرحا متوسطا -إن شاء الله-. نسأل الله أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة..