شرع الله تطهير هذه الأعضاء وغسلها وتنظيفها عند القيام إلى الصلاة أو عند وجود حدث؛ حتى يصير المصلي نظيف البدن، وحتى يحصل له النشاط والقوة، وحتى يقبل على الصلاة بصدق ومحبة ورغبة تفكروا في آيات الله وكيف بسط الله عز وجل الأرض، وجعل فيها الجبال والوهاد والأودية، والمنخفضات والمرتفعات والرمال والأبطحة، والمعادن التي في جوفها والمياه، وما شابه ذلك.فلو أن الإنسان أخذ يتدبر في هذه المخلوقات وأخذ يكرر ذلك لحفظ وقته من الضياع، وازداد يقينا وقوي إيمانه، ولم تتطرق إلى عقله الشكوك والتخيلات الشيطانية. الإسلام خير الأديان نظافة وآدابا، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتباعه أمرا إلا بينه لهم، حتى آداب قضاء الحاجة وما يتعلق بها من التباعد عن النجاسات ونحو ذلك       إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه. إذا كان عقل المريض معه وفهمه وإدراكه فإن الأوامر والأحكام الشرعية تنطبق عليه، ويكلف بالصلاة والصوم والطهارة ونحوها بحسب القدرة، ويجوز مساعدته على الطهارة إن قدر على غسل أعضائه، فإن عجز عن استعمال الماء في أعضائه وشق غسلها عليه عدل إلى التيمم، فإن عجز فإن المرافق يقوم بذلك بأن يضرب التراب فيمسح وجهه وكفيه مع النية.
إبهاج المؤمنين بشرح منهج السالكين وتوضيح الفقه في الدين (الجزء الأول)
137510 مشاهدة
صفة الوضوء وشروطه

[باب: صفة الوضوء]
وهو: أن ينوي رفع الحدث، أو الوضوء للصلاة ونحوها.
والنية شرط لجميع الأعمال من طهارة وغيرها، لقوله -صلى الله عليه وسلم- إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى متفق عليه .
ثم يقول: بسم الله، ويغسل كفيه ثلاثا، ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثا، بثلاث غرفات، ثم يغسل وجهه ثلاثا، ويديه إلى المرفقين ثلاثا، ويمسح رأسه من مقدم رأسه إلى قفاه بيديه، ثم يعيدهما إلى المحل الذي بدأ منه مرة واحدة، ثم يدخل سباحتيه في صماخي أذنيه، ويمسح بإبهاميه ظاهرهما، ثم يغسل رجليه مع الكعبين ثلاثا ثلاثا.
هذا أكمل الوضوء الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
والفرض من ذلك: أن يغسل مرة واحدة.
وأن يرتبها على ما ذكره الله تعالى في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة: 6] .
وأن لا يفصل بينهما بفاصل طويل عرفا، بحيث لا ينبني بعضه على بعض، وكذا كل ما اشترطت له الموالاة.



[باب: صفة الوضوء]
ذكر المؤلف رحمه الله صفة الوضوء التي ذكرها الله تعالى في قوله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6] .
وقد يقال: كيف يكثر العلماء الكلام على صفة الوضوء مع كونه مذكورا في القرآن؟
فنقول: إنه ذكر في القرآن مجملا، ثم إن الشريعة المجملة وكل تفصيلها إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44] فكان التفسير والبيان من النبي -صلى الله عليه وسلم- من جملة السنة ومن جملة الشريعة، فهذه الأوصاف وإن لم تذكر في القرآن فإنها مذكورة في السنة.
أولا: النية.
قوله: (وهو: أن ينوي رفع الحدث، أو الوضوء للصلاة ونحوها... إلخ):
يبدأ الوضوء بالنية لقوله -صلى الله عليه وسلم- إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ومعلوم أن النية ملازمة للإنسان في كل الأفعال، فإنه إذا فعل فعلا فلا بد له من نية، ولهذا مثلا إذا رأيته متوجها إلى الغسالات -صنابير الماء- ونحوها، وسألته: ماذا تريد؟ قال: أتوضأ، فدل على أنه قد نوى، وعلى هذا فلا يتشدد في النية.
وقد يدخل الشيطان على كثير من الموسوسين، فيثقل عليهم أمر النية، فنقول: النية ملازمة، فإما أن ينوي بغسله رفع الحدث، وإما أن ينوي بغسل وجهه رفع النعاس، وإما أن ينوي بغسل أعضائه مثلا النظافة وإزالة الوساخة وما أشبه ذلك؛ فلكل امرئ ما نوى، فإذا لم تكن قرينة تدل على أنه نوى غير رفع الحدث اكتفى بذلك، ولا حاجة إلى أن يحرك بذلك قلبه، فينوي رفع الحدث- الذي تقدم أنه: أمر معنوي يقوم بالبدن، يمنع من الصلاة والطواف ومس المصحف- أو ينوي الوضوء للصلاة أو الطهارة للصلاة ونحوها.
واستحضار ذكرها ليس بلازم، ولكن استحضار حكمها لازم، ومعنى استحضار حكمها: ألا ينوي قطعها حتى تتم الطهارة، فلو نوى وغسل وجهه ويديه بنية، ثم قطع النية وعزم على ترك الوضوء، ثم غسل رجليه للنظافة، لم يرتفع حدثه.
ثانيا: التسمية
قوله: (ثم يقول: بسم الله):
التسمية واجبة عند بعض العلماء، كالإمام أحمد رأى أنها واجبة، ولكن وجوبها خاص بمن تذكرها؛ ولذلك قالوا: تسقط بالنسيان، وتسقط بالجهل، والأحاديث التي فيها تبلغ درجة الصحة: لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه .
وفي حديث آخر: لا صلاة لمن لا وضوء له ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه .
أو كما في الحديث.
وما رواه أبو داود في مسائله عن أحمد أنه قال: لا يصح في هذا الباب شيء، يريد أنه لا يوجد حديث واحد يحكم أنه صحيح، ولكن مجموعها يرتقي إلى درجة الصحة.
ثالثا: غسل الكفين:
قوله: (ويغسل كفيه ثلاثا):
أي: يغسل يديه ثلاثا قبل إدخالهما في الإناء أو قبل الغرف بهما إن كان يصب من الأقداح ونحوها وهذا من السنة، وذلك لتنظيف اليدين؛ لأن الغالب أن اليدين تتسخان، فيسن أن يغسلهما حتى ينظفهما، فإذا اغترف بهما الماء بعد ذلك أصبح نظيفا.
رابعا: المضمضة والاستنشاق:
قوله: (ثم يتمضمض، ويستنشق ثلاثا، بثلاث غرفات):
المضمضة والاستنشاق ثلاثا بثلاث غرفات عندنا أنهما من تمام غسل الوجه، لا يتم غسل الوجه إلا بهما، والأدلة عليهما كثيرة، مثل حديث: إذا توضأت فمضمض وحديث آخر: وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائما .
والأحاديث في هذا كثيرة، ومنها الأحاديث الفعلية، فلم ينقل أن النبي -صلى الله عليه وسلم- ترك المضمضة والاستنشاق مرة واحدة، وهذا هو الصحيح، أي: وجوب المضمضة والاستنشاق. والشافعية يرون أنها سنة، ولكن الصحيح أنهما واجبان وتابعان لغسل الوجه، والتثليث فيهما سنة، والواجب غسلة واحدة.
وذلك بأن يغرف غرفة واحدة يجعل بعضها في فمه، ثم يستنشق بقيتها بأنفه، ثم يحرك الماء في الفم ويمجه، ثم يخرج ما استنشقه في أنفه، بدفعه بالنفس، وذلك هو الاستنثار، ثم الغرفة الثانية، ثم الثالثة كذلك.
فالاستنشاق نشق الماء، يعني: اجتذابه بالنفس، والاستنثار نثره، أي: دفعه بقوة النفس؛ فلذلك سموه استنشاقا واستنثارا، والحركة التي يجتذب بها بشمه بأنفه، ثم بدفعه بنفسه هذه لا يمكن كتابتها، لذلك قالوا: إنها من الحركات التي تنقل بالسماع.
وفي ذلك يقول بعضهم:
مررت ببقال يدق قــرنفلا ومسكا وكافـورا فقلـت لـه (... )
فقـال لي البقال: رد قرنفلي ومسـكي وكـافوري فقلت له (... )

خامسا: غسل الوجه:
قوله: (ثم يغسل وجهه ثلاثا):
غسل الوجه ركن من أركان الوضوء والتثليث سنة، والوجه: ما تحصل به المواجهة، وحده طولا من منابت الشعر المعتاد إلى الذقن، وعرضا من الأذن إلى الأذن، والذقن: هو مجمع اللحيين، ويجب الانتباه إلى هذا، فإن الذقن اسم لأسفل الوجه وليس هو اسم للشعر، فالشعر اسمه لحية، وأما أسفل الوجه الذي هو ملتقى اللحيين فيسمى ذقنا، فيقال: ذقن المرأة، وذقن الصبي يعني أسفل الوجه.
فيغسل من منابت الشعر إلى الذقن، ويغسل الشعر الخفيف الذي في الوجه كالعارضين وشعر اللحية، يغسل ظاهره إن كان كثيفا، ويسن تخليله وأما إن كان خفيفا فإنه يغسل ظاهره وباطنه.
سادسا: غسل اليدين
قوله: (ويديه إلى المرفقين ثلاثا):
غسل اليدين أيضا ركن، حددهما الله تعالى بقوله: (إلى المرافق) والمرفق هو المفصل الذي بين الذراع والعضد، سمي بذلك لأنه يرتفق عليه، أي: يعتمد عليه عند الجلوس، والمرفق داخل في الغسل، كما في حديث جابر بن عبد الله أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أدار الماء على مرفقيه والتثليث في غسله سنة كما سيأتي.
سابعا: مسح الرأس:
قوله: ( ويمسح رأسه من مقدم رأسه إلى قفاه بيديه إلخ):
مسح الرأس أيضا ركن، وحده من مقدمه الذي هو منابت الشعر إلى منتهى الشعر وهو القفا.
صفته: أن يبدأ بالمقدم فيضع يديه على مقدم الرأس ثم يمر بهما على الشعر وعلى الرأس إلى القفا، ثم يردهما إلى المكان الذي بدأ منه.
والتثليث في مسح الرأس ليس بسنة، بل يكتفى بمسحة واحدة؛ لأن جميع الأحاديث التي وردت فيه اقتصرت على مسحة واحدة، وذلك لأنه لا يقصد منه النظافة، وإنما يقصد منه الامتثال.
ثامنا: مسح الأذنين:
قوله: (ثم يدخل سباحتيه في صماخي أذنيه... إلخ):
مسح الأذنين تابعان للرأس، وقال بعضهم: إن ما أقبل منهما تابع للوجه، وقفاهما تابع للرأس، ولكن المشهور أنهما تابعان للرأس لحديث: الأذنان من الرأس .
صفة مسحهما: أن يدخل السبابتين في خرق الأذن (أي: صماخها)، ثم يمسح
ظاهر الأذن بالإبهامين؛ حتى يكون قد مسح أذنيه، وأما الغضاريف التي في داخل الأذن فلا يلزم غسلها للمشقة.
تاسعا: غسل الرجلين مع الكعبين:
قوله: (ثم يغسل رجليه مع الكعبين ثلاثا ثلاثا... إلخ):
غسل الرجلين مع الكعبين أيضا ركن، وهو مجمع على غسلهما إلا عند الرافضة، فإنهم يذهبون إلى المسح، ويستدلون بقراءة الجر: (وأرجلِكم)، وأهل السنة يستدلون بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- ويستدلون أيضا بحديث: ويل للأعقاب من النار ويستدلون كذلك بقراءة: (وأرجلَكم)، ويحملون قراءة: (وأرجلِكم) على الخفض بالمجاورة.
هذا هو أكمل الوضوء الذي فعله النبي صلى الله عليه وسلم.
قوله: (والفرض من ذلك: أن يغسل مرة واحدة):
فقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- توضأ مرة مرة وأنه توضأ مرتين مرتين وأنه توضأ ثلاثا ثلاثا وأنه غسل بعض أعضائه ثلاثا، وبعضها مرتين .
قوله: (وأن يرتبها على ما ذكره الله تعالى في قوله... إلخ):
الترتيب عندنا أيضا أنه ركن، وهو أن يبدأ بالوجه، ثم باليدين، ثم بالرأس، ثم بالرجلين، فإن قدم غسل اليدين قبل الوجه لم يعتد بهما، وإن مسح الرأس قبل أن يغسل ذراعيه لم يعتد بمسحه، فلا بد أن يرتبها على ما ذكر الله تعالى، فقد ذكر الله الوجه ثم اليدين ثم الرأس ثم الأرجل، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ابدءوا بما بدأ الله به .
قوله: (وأن لا يفصل بينهما بفاصل طويل عرفا... إلخ):
الموالاة أيضا عندنا أنها ركن، والموالاة: هي الإسراع، بحيث إنه كلما فرغ من عضو ابتدأ بالذي بعده، ولا يفصل بينهما حتى لا يطول الفصل؛ لأنه -مثلا- لو غسل وجهه ثم جلس يتحدث حتى جف وجهه، ثم غسل يديه ثم جلس يتحدث، فطال الزمان فيبست، ثم مسح رأسه، فهذا لم يصدق عليه أنه متوضئ، فالمتوضئ هو الذي يأتي بهذه الأعضاء في مجلس واحد ولا يفرق بينها، ولا يفصل بينها بفاصل كبير عرفا، بحيث ينبني بعضها على بعض، فالوضوء شيء واحد، مبني بعضه على بعض فلا يفرقه.
قوله: (وكذا كل ما اشترطت له الموالاة):
وكذلك كل ما يلزم منه الموالاة؛ كالطواف بالبيت كما سيأتينا أنه يلزم فيه الموالاة والفاصل الكثير يبطله، وكذلك السعي يشترط له الموالاة، وكذلك ألفاظ الأذان، فلو أن مؤذنا كبر التكبيرات الأربع، ثم ذهب إلي بيته، ثم رجع وتشهد بالشهادات، لم يصدق عليه أنه أذن، فلا بد أن تكون ألفاظه متوالية.
انتهى من صفة الوضوء.