الدين الذي في ذمة من هو قادر على الوفاء يزكى؛ لأنه بمنزلة الأمانة عنده، ويقدر صاحبه أن يأخذه ويتحصل عليه متى طلبه، وأما الدين الذي عند معسر أو مماطل ولو كان غنيا، فإن صاحبه لا يقدر على الحصول عليه، ولو طالبه قد يدعي الإعسار والفقر، فمثل هذا المال كالمعدوم، فلا زكاة عليه إلا إذا قبضه لم يوجد أحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم دخل في بدعة ولا خالف السنة ولا جماعة المسلمين،ولا خرج على أئمة الدين بل الصحابة كلهم عدول؛ وذلك لأنهم تلقوا الوحي من النبي مباشرة فوصل الإيمان إلى قلوبهم، فلم يكن إيمانهم عن تقليد بل عن فقه واتباع. شرع الله تطهير هذه الأعضاء وغسلها وتنظيفها عند القيام إلى الصلاة أو عند وجود حدث؛ حتى يصير المصلي نظيف البدن، وحتى يحصل له النشاط والقوة، وحتى يقبل على الصلاة بصدق ومحبة ورغبة إن الغذاء الطيب من مكسب حلال يكسب القلب قوة، ويكسبه صفاء وإخلاصا، ويكون سببا في قبول الأعمال وإجابة الدعوات. والغذاء الطيب يكون سببا في بركة الله ومباركته للأعمال والأعمار والأموال، وأثر ذلك واضح، فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (كل لحم نبت على سحت فالنار أولى به) الإسلام خير الأديان نظافة وآدابا، ولم يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم لأتباعه أمرا إلا بينه لهم، حتى آداب قضاء الحاجة وما يتعلق بها من التباعد عن النجاسات ونحو ذلك
شفاء العليل شرح منار السبيل
196319 مشاهدة
المطلب الثاني: في حكم التقيد بمذهب خاص

اشتهرت مذاهب الأئمة الأربعة، واتفق اتّباع الجماهير لكل إمام، ولم يظهر إنكار من بعضهم على بعض، واتفقوا على أن كل إمام من الأربعة ونحوهم اجتهد في فتواه وتحرّى الصواب، لكنه غير معصوم، بل هو عرضة للخطأ، فاتباعه إنما يسوغ في اجتهاده الموافق للصواب، فمتى اتضح أنه أفتى في مسألة بما يخالف الأدلة الصريحة لم يجز تقليده، فإن الحق قديم، وإنما اختلفوا هل على العامي أن يلتزم مذهبا معينا، يأخذ برخصه وعزائمه.
قال الشيخ تقي الدين -رحمه الله- في مجموع الفتاوى والجمهور لا يوجبون ذلك، والذين يوجبونه يقولون: إذا التزمه لم يكن له أن يخرج عنه ما دام ملتزما له، أو ما لم يتبين له أن غيره أولى بالالتزام منه، ولا ريب أن التزام المذاهب والخروج عنها إن كان لغير أمر ديني، مثل أن يلتزم مذهبا لحصوله غرض دنيوي من مال أو جاه أو نحو ذلك، فهذا مما لا يحمد عليه، بل يذم عليه في نفس الأمر، كمن هاجر لدنيا يصيبها، أو امرأة يتزوجها.. وأما إن كان انتقاله من مذهب إلى مذهب لأمر ديني، مثل أن يتبين له رجحان قول على قول، فهو مثاب على ذلك، بل واجب على كل أحد إذا تبين له حكم الله ورسوله في أمر أن لا يعدل عنه.. لكن لما كان من الأحكام ما لا يعرفه كثير من الناس، رجع الناس في ذلك إلى من يعلمهم ذلك... فأئمة المسلمين الذين اتبعوهم وسائل وطرق وأدلة بين الناس وبين الرسول يبلغونهم ما قاله ويفهمونهم مراده، بحسب اجتهادهم واستطاعتهم، وقد يخص الله هذا العالم من العلم والفهم بما ليس عند الآخر، وقد يكون عند ذلك في مسألة أخرى من العلم ما ليس عند هذا. اهـ.
وهذه المذاهب إنما اشتهرت في القرن الرابع وما بعده، حيث انتحل كل مذهب فئام من الناس، وتقيدوا به في أصول الفقه وفروعه، ثم حصل التعصب من كثير من الأتباع، فكان من آثاره أن ردوا الكثير من الأحاديث والنصوص الصريحة، أو تكلفوا في صرف دلالتها، ولا شك أن الوصول إلى هذا الحد مذموم شرعا، فإن وظيفة المسلم قبول الدليل ممن جاء به من عدو أو صديق، وإنما المذموم هو تتبع رخص الأئمة التي يظهر فيها الخطأ، ولو قالها البعض باجتهاد هو فيه معذور، وقد حكم العلماء بأن من تتبع الرخص التي هي هفوات وزلات جرّه ذلك إلى الانحراف، والميل عن الحق، وهكذا يذم أيضا من تحول عن مذهب اعتنقه بغير مسوغ.
وقد سئل شيخ الإسلام -رحمه الله- كما في مجموع الفتاوى عن قول ابن حمدان في آخر الرعاية: إن من التزم مذهبا أُنكر عليه مخالفته بغير دليل، أو تقليد، أو عذر آخر، فأجاب: هذا يُراد به شيئان:
(أحدهما): أن من التزم مذهبا معينا، ثم فعل خلافه من غير تقليد لعالم آخر أفتاه، ولا استدلال بدليل يقتضي خلاف ذلك، ومن غير عذر شرعي يبيح له ما فعله، فإنه يكون متبعا لهواه وعاملا بغير اجتهاد ولا تقليد، فاعلا للمحرم بغير عذر شرعي، وقد نص الإمام أحمد وغيره على أنه ليس لأحد أن يعتقد الشيء واجبا أو حراما ثم يعتقده غير واجب ولا حرام بمجرد هواه، مثل أن يكون طالبة لشفعة الجوار فيعتقدها حقا له، فإذا طلبت منه شفعة الجوار اعتقدها ليست ثابتة، فمثل هذا ممكن في اعتقاده حل الشيء وحرمته ووجوبه وسقوطه بحسب هواه.. وأما إذا تبين له ما يوجب رجحان قول على قول، إما بالأدلة المفصلة إن كان يعرفها ويفهمها، وإما بأن يرى أحد الرجلين أعلم بتلك المسألة من الآخر وأتقى لله فيما يقوله فيرجع عن قول إلى قول لمثل هذا، فهذا يجوز، بل يجب.. إلخ.
وسئل أيضا -رحمه الله- كما في الفتاوى عن قول بعضهم: ينبغي لكل مؤمن أن يتبع مذهبًا، ومن لا مذهب له فهو شيطان إلخ. فأجاب: إنما يجب على الناس طاعة الله والرسول -صلى الله عليه وسلم- ولا تجب طاعة أولي الأمر إلا تبعا لطاعة الله ورسوله لا استقلالا، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله، من أي مذهب كان، ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقوله، ولا يجب على أحد التزام مذهب شخص معين، بل كل أحد يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- واتباع شخص لمذهب شخص بعينه لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته إنما هو مما يسوغ له، ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق، بل كل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله، فيفعل المأمور ويترك المحظور، والله أعلم. اهـ.
وبالجملة فنحن لا نلزم بما في هذا الكتاب لكونه قول الإمام أحمد كما لا نقول بالتقيد بما في كتب الحنابلة، كالمحرر، والمقنع، والعمدة، والهداية، ونحوها.
بل نقول: إن الواجب على المكلف إذا لم يكن معه أهلية وقدرة على معرفة كل قول بدليله من الكتاب والسنة، أن يرجع إلى أهل العلم أو مؤلفاتهم التي تعتني بالأدلة والأصول الشرعية، كما أمر الله بذلك في قوله: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وقال -صلى الله عليه وسلم- ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال وليس هذا تقليدا؛ فإن التقليد المذموم هو التقيد بقول شخص بعينه ، لا يخرج عنه في التحليل والتحريم بغير دليل، أما هذا فهو اقتداء بمن يحتج بالأدلة الشرعية ممن يعمه قول الله تعالى: وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا وقوله عن الخليل -عليه السلام- وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ والله أعلم.