جاء الشرع الشريف مرغبا في حسن المعاملة مع الأفراد والجماعات ؛ فحث على اختيار الرفقاء الصالحين ونفر من قرناء السوء، ورغب في زيارة الإخوان والأنس بهم، وأخبر بأن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من صاحب العزلة؛ فإن الأول ينفع الناس ويرشدهم، ويتحمل ما ناله في ذات الله من إساءة وضرر. إن المؤمن بربه يرضى بالقضاء والقدر، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، ويعلم أن في الابتلاء والامتحان خيرا كثيرا وأجرا كبيرا، وأن المصائب والنكبات يخفف الله بها من الخطايا، فيستحضر قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أصاب العبد المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله بها من خطاياه" متفق عليه القلوب أوعية؛ منها ما يستوعب الخير، ومنها ما يستوعب الشر. وأفضل القلوب هي التي تمتلئ بالخير،تمتلئ بالعلم وتمتلئ بالدين والعبادة، تمتلئ بالعلم النافع والعقيدة السليمة، هذه هي القلوب الواعية، وهي أرجى القلوب لتحصيل الخير يجوز أن يعلم القبر بعلامات يعرف بها، فقد ثبت أنه صلى الله عليه و سلم لما دفن عثمان بن مظعون جعل عند قبره حجرا وقال: "أعرف به قبر أخي، وأدفن إليه من مات من أهلي". فيجوز أن يجعل علامة كحجر أو لبنة أو خشبة أو حديدة أو نحو ذلك، ليميز بها القبر عن غيره حتى يزوره ويعرفه.أما أن يكتب عليه فلا يجوز؛ لأنه قد نهي أن يكتب على القبور حتى ولو اسمه، وكذلك نهي أن يرفع رفعا زائدا عن غيره.    عيادة المريض سنة مؤكدة، وقد رأى بعض العلماء وجوبها. قال البخاري في صحيحه: باب وجوب عيادة المريض. ولكن الجمهور على أنها مندوبة أو فرض على الكفاية، وقد ورد في فضلها قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة حتى يرجع" رواه مسلم. (الخرفة: اجتناء ثمر الجنة)
شفاء العليل شرح منار السبيل
196080 مشاهدة
القيح والدم والصديد

قوله: [ والقيح والدم والصديد نجس ] لقوله -صلى الله عليه وسلم- لأسماء في الدم: اغسليه بالماء متفق عليه والقيح والصديد مثله. إلا أن أحمد قال: هو أسهل.


الشرح: يتكلم المؤلف هنا عن النجس من الفضلات، وما يتحلل من الإنسان، وكذلك من الحيوان.
فمن ذلك القيح، والدم، والصديد.
وقد ذكر أن هذا كله نجس، ويعرف الناس بفطرهم أنه مستقذر طبعا.
والناس مازالوا يتوقونه، ويغسلونه من أبدانهم، ومن ثيابهم.
فتوقيهم له دليل على نجاسته، وقذارته.
ومن الدليل على نجاسة الدم ما ذكر في هذا الحديث الصحيح أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر فيه بثلاثة أشياء.
1- أمر فيه بالحت؛ لأنه يتجمد على الثوب فيحت إذا كان يابسا متجمدا.
2- ثم بعد ذلك أمر بالقرص بالماء، وهو غسله برؤوس الأصابع، ودلكه، وفركه بالماء، ونحوه.
3- وأمر ثالثا بالنضح، وهو صمت الماء عليه حتى يغمره.
وهذا كله دليل على أنه نجس.
ودليل آخر هو أن الله تعالى حرم الدم، والأصل في كل محرم أن يكون نجسا، سيما إذا كان مائعا ذائبا، فإنه نجس، وينجس ما التصق به، فلأجل ذلك حكم بأن الدم نجس.
وقد استدل أيضا من يرى أنه نجس بالحديث الذي فيه أنه -صلى الله عليه وسلم- أمر الذي يحدث في الصلاة أن يمسك أنفه، ويخرج من الصلاة، وذلك لأن صحف قد طلت، فقال -صلى الله عليه وسلم- إذا أحدث أحدكم بالصلاة فليمسك بأنفه .
فهذا دليل أنه كان متقررا عندهم أن الدم الذي يخرج من الأنف نجس، وناقض للوضوء.
فإذا أحدث الإنسان وهو في الصلاة فإنه يمسك بأنفه، ثم يخرج منها؛ لأنه يستحي أن يعلم الناس أنه قد أحدث في صلاته بريح، أو نحوه.
فهذا دليل على أنه كان معروفا عندهم أن الدم يتوقى منه، ويمسك، ولا يترك يتقاطر على المسجد، ولا على الثوب، ولا على البدن.
وأما صلاة عمر - رضي الله عنه- وجرحه يثعب دما فإن هذا يكون كالحدث الدائم، وذلك لعدم قدرته على إيقافه، فهو بمنزلة صاحب سلس البول يصلي على حسب حاله.
ولو وقف حتى ينتهي سيلانه لربما توفي قبل ذلك، وربما خرج الوقت، أو تأخر عن الصلاة، فلأجل ذلك صلى وجرحه يثعب دما.
وهكذا قصة الأنصاري الذي رمي وهو في الصلاة، فاستمر في صلاته، ولم يوقظ صاحبه حتى سالت الدماء على ثوبه .
فهذه القصة- على تقدير صحتها- فيها أنه لم يستطع إيقاف الدم، فصلى والدماء عليه، فهو بمنزلة صاحب سلس البول، وبمنزلة صاحب القروح والجروح السيالة، وبمنزلة المستحاضة التي تتوضأ لكل صلاة، ولكن في أثناء الصلاة لا يضرها إذا خرج منها شيء فوقع على ثيابها، أو على بدنها؛ لأن ذلك ضرورة، وليس لوقفه وقت محدد.
فلما كان هذا في الدم، لحق به القيح، والصديد؛ لأن الناس يستقذرونهما، ويتوقون منهما، فهما شبيهان بالدم.
ومن العلماء من فزق بينهما، وجعل نجاستهما أخف من نجاسة الدم .
وعلى كل : التوقي عن ذلك أولى.
مسألة : القيء إذا تغير فإنه نجس، أما لو شرب الطفل ماء أو لبنا ثم قاءه ولم يتغير، فإنه ليس بنجس.
وهكذا لو شرب الإنسان ماء ثم قاءه ولما يتغير فإنه طاهر.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- عندما قاء توضأ، فدل هذا على أنه لم يتوضأ إلا لأجل القيء، فهو ناقض للوضوء.
مسألة : المسك يؤخذ من دم الغزال، قال الشاعر:
فإن تفتي الأنام وأنت منهم فـإن المسـك بعض دم الغزال

وهو وإن كان أصله من دم الغزال، إلا أنه قد طهر بالاستحالة، وتغيرت صفاته- كما هو معلوم-.
وقد علمنا أن النجس يطهر بالاستحالة، كالدابة التي تموت في المملحة، فتصبح ملحة، فإنها تطهر بذلك.
وهكذا النجاسة التي تأكلها الدابة، ثم تستحيل، فإنه يعفى عنها كما في (الجلالة) التي تتغذى على النجاسات، فإنه -صلى الله عليه وسلم- أمر بحبسها إن كانت من الإبل أربعين يوما، أو نحوها، حتى يطيب لحمها.
فإن كانت من الغنم حبست سبعة أيام حتى يتغير ما بجوفها، فيكون طعاما طيبا.
أما الدجاج فإنه يحبس ثلاثة أيام.
وهكذا يقال في الخمر التي تستحيل من نفسها فتصبح خلا، فإنها تطهر وتصير مباحة.
فالحاصل أن النجاسة إذا استحالت إلى شيء طاهر، فإنها تعتبر طاهرة.
مسألة : بعض أصحاب مزارع الدجاج يطعمون دجاجهم دما مجمدا حتى ينمو الدجاج بسرعة، فيتخذون هذا حيلة في تغذيتها.
ولا شك أن هذا تغذية بشيء نجس محرم.
فالحكم أن يعامل هذا الدجاج معاملة (الجلالة)، بأن لا يذبح حتى يحبس ثلاثة أيام، ويطعم طعاما طيبة، كالحبوب، ونحوها.
أما إذا لم يحبس فإنها لا تؤكل، أي أن أكلها محرم.
فإذا شككنا في كونهم يطعمونها دما أم لا، فالأصل أنها حلال، حتى نستيقن خلاف ذلك.